اتهام المخابرات الروسية بالتدخل عبر الفضاء الافتراضي للتأثير على نتيجة الانتخابات الرئاسية التي أجريت نهاية العام الماضي ما زال يتفاعل في واشنطن والعواصم الغربية وآخر ضحاياه مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الاميريكية (اف بي اي) جيمس كومي الذي أقصي من منصبه بقرار مفاجئ أصدره الرئيس دونالد ترامب بناء على توصية من وزارة العدل. إعفاء كومي الذي كان يقود تحقيقات متعلقة بصلات محتملة بين فريق حملة ترامب الانتخابية وروسيا، أثار تساؤلات واسعة في واشنطن ربط البعض بينها وبين التحقيق في عملية التدخل الروسي مما جعل أعضاء في الكونجرس يطالبون بنقل القضية برمتها الى هيئة مستقلة بعيدا عن الاف بي اي. قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الامريكية، ثم الانتخابات الهولندية وبعدها الفرنسية، ظلت تتصدر صفحات الرأي في الصحافة الغربية على مدى الأشهر الستة الاخيرة منذ تسريب معلومات بشأنها اثناء الحملة الانتخابية الامريكية حتى ان المرشحة الديمقراطية هيلاري كيلنتون اعتبرت التدخل الروسي احد اسباب خسارتها امام دونالد ترامب. الاسبوع الماضي وجه اثنان من ادارة الرئيس باراك اوباما هما ماثيو اولسين وايدوارد فيشرمان رسالة في صحيفة الواشنطن بوست للدول الغربية، دعوا فيها لعدم السكوت على الهجمة الالكترونية الروسية على الديمقراطيات الغربية والمسارعة برد الهجوم. عمل الاول مديرا للمركز القومي الامريكي وحاليا زميلا مساعدا في مركز الأمن الأمريكي الجديد. وكان الثاني عضوا ضمن فريق وزير الخارجية لتخطيط سياسات الدولة في عهد اوباما ايضا وحاليا يعمل زميلا مساعدا في المجلس الأطلسي. اولسين وفيشرمان قالا: «ان الغرب بإمكانه تنفس الصعداء بعد فوز ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بالرغم من تدخل جديد قاده الروس لدعم المرشحة (مارين لوبان) أفكارها معادية لليبرالية، ومنحازة بشكل صريح للكرملين. ولكن فشل روسيا في تحقيق مرامها هذه المرة لا يعني ان نسترخي في مواجهة تدخلاتها، بل على العكس تماما، فالانتخابات الفرنسية التي جاءت بعد شهور قليلة من الانتخابات الامريكية شابتها تدخلات روسية توكد ان التخريب عبر الفضاء الالكتروني اصبح سمة اساسية في ادارة السياسة الروسية». فروسيا في رأيهما ستستمر باستخدام القرصنة الالكترونية كاداة ووسيلة لممارسة التخريب ولن تتوقف اذا لم يتم التصدي لها ومقاومتها. صحيح انها تكبدت بعض الخسائر الطفيفة بسبب ممارساتها الخاطئة. لكن حان الوقت لتغيير الوضع وعلى الغرب ان يسارع في اعتماد استراتيجية توقف هذا الهجوم ضد الديمقراطية. من السهل معرفة سبب إقدام روسيا على اختيار الفضاء الافتراضي لممارسة التخريب، فالغرب ليس لديه الاستعدادات الكافية لحماية نفسه في مواجهة تكتيكات موسكو. فالولاياتالمتحدة واوروبا بحسبانهما مجتمعات ديمقراطية منفتحة، لن تستطيع منع روسيا من نشر الأخبار الكاذبة والملفقة والمعلومات المسروقة. وسبق ان قال ضابط مخابرات روسي: «إذا لم يكن لديهم (المواطنين الروس) حرية صحافة.. يتوجب علينا أن نخترعها لهم». أضف إلى ذلك أن السياسات والعمليات الغربية في مجال أمن السايبر اسبيس (الفضاء الافتراضي) لم تنضج بعد. وليس ذلك بمستغرب بالنسبة لمجال سريع التطور كالتخريب عبر الفضاء الافتراضي. وهو يتيح لروسيا مناطق رمادية لا حصر لها تستطيع ان تستغلها. كما أن الغرب لم يرسم حتى اليوم خطوطا حمراء واضحة بالنسبة لعمليات التخريب عبر السايبر اسبيس كما انه لم يصمم ادوات قوية تكون جاهزة للرد. بجانب أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها في حلف الناتو لم يتوصلوا بعد الى تعاون وثيق بشأن مكافحة التخريب الالكتروني كما هو متوفر لهم في المسائل العسكرية التقليدية. كل هذه الثغرات الأمنية جعلت من الفضاء الافتراضي ساحة مفتوحة وجذابة لموسكو تستثمرها في عملياتها التخريبية. فليس هناك من وسيلة أكثر كفاءة ونفاذا لإضعاف الغرب من استهداف ديمقراطيته لتقويضها من الداخل. لمواجهة العمليات الروسية على الانترنت تحتاج الدول الغربية لتبني استراتيجية تقوم على ركيزتين أساسيتين هما الردع والمرونة. وكلاهما ضروري لجعل روسيا تتراجع عن شن هجماتها وفي نفس الوقت تقوي دفاعاته لمواجهة اي هجمات قادمة. ذلك ان الردع الناجح يجمع بين النوايا الجادة واستعراض القدرات. ببساطة لا بد من معرفة أي العمليات السايبرانية الروسية تتطلب الرد عليها ويجب ان يؤكد الرد بالغ التكلفة للكرملين. يستطيع الغرب معالجة النصف الأول من هذه المعادلة عن طريق اصدار اعلان مشترك بين حلف الناتو والاتحاد الاوروبي يتم التأكيد فيه على ان استخدام السايبر اسبيس لتقويض العملية الديمقراطية في أي دولة عضو سيتم التعامل معه على أنه اعتداء على الجميع. بهذه الطريقة سيعرف الروس أن الغرب يعتزم الرد بشكل جماعي وبقوة إذا ما استمر تدخلهم في شؤون دوله الداخلية. أما النصف الثاني من المعادلة، فإبمكان الغرب معالجته بفرض عقوبات اقتصادية واسعة على روسيا إذا عبرت خطوطه الحمراء. وبما أنها مجتمع مغلق تظل أقل عرضة للتدخل السياسي السالب كما هو الحال بالنسبة للغرب. ونقطة ضعفها تكمن في الاقتصاد الروسي وهو الهدف المناسب لانه ضعيف ويعتمد على الغرب. على الولاياتالمتحدة وأوروبا أن تمضيا الى ما هو أبعد من نهج إدارة أوباما التي واجهت العقوبات السيابرانية ضد المنفذين الفعليين الذين ارتكبوا المخالفات الرقمية وخططت لضرب روسيا في مواقع ضرر مفصلية كقطاعات المال والطاقة والتكنولوجيا. الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي عليهما الإعلان عبر وسائل الإعلام ان الهجمات الالكترونية سيترتب عليها فرض عقوبات على الشركات الروسية في تلك القطاعات، وعليهما الاتفاق مسبقا على تدابير محددة حتى يمكن توقيع العقوبات بسرعة عند ما يقتضى الأمر ذلك. لو أدركت موسكو أن تدخلاتها الانتخابية ستجلب الضرر على احد مصارفها الرئيسية بوضعه تحت القائمة السوداء وهو إجراء اشد قسوة من من اي عقوبة سبق تطبيقها ستفكر مرتين قبل ان تشن هجومها الاسفيري القادم. شركات وسائل الاعلام الاجتماعية من امثال فيسبوك وتويتر عليها بذل المزيد من الجهد لمنع روسيا من استخدام منصاتها كأدوات انطلاق للتخريب. ورقة فيسبوك الاخيرة التي قدمها حول العمليات الإعلامية والتي تقترح وسائل لمنع انتشار الأخبار المضروبة تعتبر بداية جيدة. وعلى حكومة الولاياتالمتحدة تشجيع جهود كهذه والتعاون مع شركات وسائل الإعلام الاجتماعية للتعرف على حملات التضليل وقتلها في مهدها وازالة الأخبار الوهمية التي تزرعها أجهزة المخابرات الأجنبية. بهزيمة لوبان يوم الأحد الماضي أخطات الرصاصة الغرب. وإذا مضى قدما دون الاهتداء باستراتيجية واضحة لمكافحة التخريب الروسي، فقد لا يكون محظوظا في المرة القادمة. الولاياتالمتحدة وأوروبا عليهما العمل الآن وليس غدا للدفاع عن أنفسهما في مواجهة تهديدات موسكو الرقمية التي تستهدف الديمقراطية.