وجودنا على أرضنا الجافة ليس وجودا عشوائيا. وجود بمعايير بيئية منتقاة، منتخبة، جعلت الحياة قوة مستدامة، في أعتى وأقسى وأصعب الظروف. تلكم ملحمة الآباء والأجداد البيئية عبر التاريخ. بالذكاء البيئي استدام وجودهم على هذه الأرض المباركة. نجحوا بفلسفة بيئية شكلت خصوصية المكان عبر الأجيال. أسسوا لما اسميه: (حضارة الرمق الأخير). استراتيجية التعايش. حضارة استمرار حياة الإنسان في ندرة الموارد وصعوبة الحصول عليها. حضارة الرمق الأخير تمثل قدرة الإنسان على البقاء في جميع الظروف القاهرة للحياة. ■■ هل تساءلتم كيف استطاع الآباء العيش في الظروف الاستثنائية للبيئة وبها؟! صحاري، جفاف، وندرة موارد. هل تساءلتم ما عوامل استمرارهم عبر القرون؟! مهارات التعايش مع البيئة جعلت منهم قامات قاهرة لتحديات البقاء. مهارات نتاج تجربة اليد. مهارات تراكمية متقنة الفهم والممارسة. مهارات تتوارثها الأجيال. مهارات تمثل أسلحة البقاء والاستدامة. ■■ نعم.. وجودنا بالمناطق الجافة ليس وجودا عشوائيا. وجود يمثل حضارة بيئية نادرة، ذات قيمة ومعيار. يجب رصد نسيجها بكل نواحي الحياة. كنز حقيقي يجب توثيقه وصونه. إعادة تأهيله وتطويره وتنميته. وسائل ومهارات بسيطة تحقق أهدافا عظيمة وكبيرة. نحن لا نعيد اختراع الأشياء. مطالبون بإحياء التراث المهاري البيئي للآباء. هذا جزء من حقوقهم وحقوق الأجيال القادمة علينا. ■■ هناك خلل بيئي نعيشه. تجاهل مضر بالبيئة نمارسه. عشنا حالة طفرة بدأت مع خطة التنمية الثانية (1975). طفرة أخلّت نتائجها بكل نسيج الحياة المتوائم مع البيئة. طفرة توارى خلفها كل محصول التراث المهاري البيئي عبر القرون. أصبح موت الآباء أشبه بمكتبات تحترق. جاءت أجيال لا تملك مهارات البقاء. لا تعرف تاريخها البيئي. كنتيجة أصبحت البيئة نكرة بحياتهم. جاروا على مواردها. أجيال غير مكترثة. هذا تقصير يجب تصحيحه. ■■ كل منطقة بتراث مهاري بيئي خاص بها. أدعو أبناء كل منطقة لرصده. أيضا في كل مجالات الحياة، خاصة مجال المياه والزراعة والرعي وصيد السمك والفلك. مهارات بحاجة لتفسيرات علمية. بحاجة لجهة رسمية تعيد حديث السندباد البيئي وعظمته وعلومه. هذا دورنا كجيل مخضرم. مهارات تراكمية يمكن احياؤها وتنميتها وتطويرها. مهارات جعلت كل أسرة وحدة إنتاجية تعتمد على نفسها بكل مجالات الحياة. الأسرة المنتجة أساس نجاح البقاء والاعتماد على الذات. بعلمنا وقدرتنا الحالية يمكن جعلها حضارة إنتاجية للعيش الرغيد الذي ننشده ونتطلع اليه. ■■ فهم البيئة والتعايش معها جزء من حضارة البقاء. جعل الآباء كل ما يحيط بالفرد بيئة صالحة للحياة. ليس فقط على مستوى الجغرافيا والمناخ، لكن أيضا على مستوى الثقافة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والسياسية والعلاقات الانسانية. انهيار تلك العلاقات، مع سني الطفرة، شكل سقوطا مدويا لكل أنواع التراث المهاري البيئي عبر القرون. اليوم نحن بحاجة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. بحاجة لرصد ما يمكن رصده وتسجيله. بحاجة للاستفادة منه واستثماره. وسائل بسيطة يمكن أن تحقق معجزات لا تحققها الميزانيات الضخمة. ■■ نحن اليوم نملك الخبرات. الجيل الذي يمثل الحلقة الرّابطة بين التراث المهاري البيئي وبين الحياة الحديثة يجب استثمار خبرته لنجاح إعطاء التفسيرات العلمية. موت هذا الجيل يعني فقد الحلقة النهائية الرابطة بين حياتين مختلفتين. الحياة التي نعيش اليوم تختلف بكون الإنسان لا يملك مقومات استمرار حياته على هذه الأراضي الجافة وقت الأزمات الاستثنائية، بعكس حياة ما قبل الطفرة كانت تعيش بقدرتها المتوارثة والمتقنة. ■■ المجاعات والعطش قادمان في ظل حدوث أي خلل لا سمح الله. العودة للتنقيب عن التراث المهاري (خاصة المائي والزراعي) تكفينا عناء توفير الميزانيات الضخمة لمشاريع استدامة الحياة بشكل سليم وكفء. نجاح تعزيز مستقبل وجودنا، في جزء منه، يعتمد على مهارات الحياة البيئية العالية المقام. هذا جانب حضاري مهم.