ماهو التموضع السياسي؟ ليس من غير المفيد الإجابة عن هذا السؤال. ذلك أن مفهوم التموضع السياسي مثله مثل أي مفهوم فكري عرضة للجدل. وحتى لا ندخل في معمعة تحرير المفهوم الشائكة، يمكن القول إن المعنى السائد للتموضع السياسي هو هذا العمل المتشعب الذي تقوم الدول ممثلة بحكوماتها ومؤسساتها الرسمية والمؤسسات المستقلة لخدمة المصالح المشتركة للبلد وأهله بما يتناسب والظروف المتحركة في كل بلد على حدة ومع بلدان العالم. وهو تكييف الممارسة السياسية بحيث لا تتعارض مع الأهداف العامة والتي تأخذ شكل الثبات، بل تخدم هذه الأهداف. صحيح أن هذه الممارسة في التبني والإعلان، قد تأخذ أشكالا متعارضة لسياسات سابقة، لكن مبررات الأخذ بها موجودة ابتداء في ألف باء علم السياسة الذي يقول: السياسة هي فن الممكن. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن مفهوم التموضع السياسي الذي تمثل في التجربة اللبنانية بامتياز ولا يزال صامدا، تعرض للكثير من الظلم في فهم ضرورته للبلد الأول في التجربة الديمقراطية- الناقصة- لكنها الوحيدة قبل عام 2011 في المنطقة العربية وما تلاها من تجارب لا تزال فتية. ذلك أن المفهوم اقترن في الغالب بالانتهازية السياسية والخيانة وهو اتهام مبرر حتى اليوم لولا أن اضطرابا عظيما أصاب العالم حكومات ومؤسسات وأحزابا كبرى بل و.. شعوبا. اليوم يصبح التموضع السياسي على مستوى العالم ضروريا بل «ومطلبا» يردده الزعماء في عواصم الدول الديمقراطية العريقة في أوروبا الأم والولايات المتحدة. قد يقول قائل إن من يقود هذا التموضع السياسي الذي يأخذ شكل العودة للماضي هو قوى وأحزاب شعبوية «خارجة» على القوى والأحزاب الفاسدة. حسنا، الرئيس ترامب وصل إلى البيت الأبيض كمرشح للحزب الجمهوري وهو اليوم يستمد سلطته من أغلبية في الكونجرس ومجلس النواب «والمؤسسات» الديمقراطية تستمر في دعم السياسة الأمريكية في الداخل وبحر الصين وكوريا وسوريا واليمن. وفي أوروبا يتبارى زعماء اليمين وبعض قوى اليسار وزعاماته على الاقتراب بشكل موضوعي من شعارات ذات القوى اليمينية المتشددة لحصد أصوات الناخبين في مرحلة من اللا يقين حول مستقبل كل بلد ومجموع تكتلات العالم ودوله. دولنا وشعوبنا جزء من هذا العالم المضطرب. موجة التموضعات السياسية لا تقتصر على هذا البلد أو ذاك، ولعل جولات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان الحالية في بلدان شرق آسيا وزيارة وزير الخارجية عادل الجبير إلى بغداد تأتي استجابة لتلك الاستحقاقات، التي لا تستثني أحدا، وهي تمثل استمرارا لسياسة التموضع الداخلي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي القائمة على التقاط معالم المستقبل والمراهنة عليها في السياسة الداخلية والخارجية. الكل يتموضع، حكومات وإدارات وزعامات وأفرادا. أما الناس، فبدورهم يتموضعون ويراقبون بولاء وحذر لا تحكمه الضغينة بقدر ما يحكمه الخوف من السياسة. التموضع السياسي ليس مشروطا بقوة أو ضعف، بل بإرادة. الأردن مثلا تضع اليوم معالم تموضعها في علاقاتها مع العراق وروسيا وإيران والسعودية تحت عنوان «أجندة الأردن 2017 صناعة السياسة في مرحلة اللا يقين» مخرجات لعصف فكري في مركز الدراسات الإستراتيجية لجامعة الأردن على يد نخبة من المفكرين المتميزين من المؤسسات الرسمية والمدنية المستقلة كما أوردت صحيفة الرأي الأردنية.