في مطلع كل سنة ميلادية تتنافس 3 وزارات سيادية «ماليا» على أكبر نصيب من مخصصات الدولة وهي الصحة والتعليم والأمن. ولا شك أن كلا من هذه الثلاث أهم من الأخرى بل إن كلا منها ضلع لمثلث مجتمع قوي متماسك صعب الكسر، فمرة إن لم يكن التعليم ثانيا فهو أولا وهكذا كل عام، لم يأت ذلك فقط من مجرد تقليد لبعض الدول أو بمعطيات بسيطة، بل إيمانا بأن غذاء العقل وهو العلم لا يقل أهمية من جميع النواحي عن غذاء الجسم، فكل منهما يمد الإنسان بطاقة تجعله على قيد الحياة ومع الحياة. التعليم هو عصب المجتمع وبه يقاس تقدم الشعوب وتأخرها عن الركب الدولي، وبالتالي تتأثر كثير من قواها كالعسكرية والاقتصادية فيستحيل أن تجد بلدا يتقدم علميا ويتخلف اقتصاديا وأمنيا والعكس صحيح. تعلم كثير من الدول أن الاستثمار الحقيقي هو في أبنائها الذين هم سيستثمرون بعد ذلك ثرواتها، فإن كانت الخطوة الأولى موجودة وصحيحة بالتالي وتلقائيا ومنطقيا وبديهيا أن ما يليها موجود وصحيح. هذا إن تكلمنا بشكل عام، لنقترب قليلا ونضيق الدائرة الى الأسرة والفرد، كم من أهل يستثمرون في أبنائهم؟ وإن استثمروا فهل استثمارهم صحيح أم لا؟، في غالب الأمر لا، في كل يوم نسمع عن أب يعنف طفلته أو أم تتنازل عن أطفالها، وقد لا يكون التنازل حسيا وملموسا بل يكون معنويا بسوء التعامل. البعض يغدق عليهم من العطف والحنان والمال ولكنه يسيء إليهم بكثير من الألفاظ والتشبيهات المحبطة التي تقتل كل مكامن القوة وفرص النجاح بهم، قليلون هم من يرون مهارات يجب أن يشجعوها ويصقلوها في أبنائهم وبناتهم، كم من ولي أمر ينفق من وقته وماله ليختار مدرسة مناسبة لابنه بالسؤال عن المدرسين ونوعية الطلاب وطريقة المدرسة، أعلم أن الخيارات محدودة وإجبارية أحيانا لكن كثيرين يختارون حتى المدارس الأهلية التي يكون معيارها المسافة فقط أو قيمة الرسوم السنوية. معلم البشرية عليه الصلاة والسلام كان يختار الزمان والمكان المناسبين ليستثمر بنا فقال «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» مختصر مفيد جامع لكل شيء في كلمات محدودة، أدب ومباشرة وعطف وفائدة واضحة، دون مقارنات مع غيره ولا تحبيط وتيئيس له قبل أن يبدأ. لا يزال كثير من تفكير الآباء والامهات مبنيا على «خلك مثل ولد فلان ما شاء الله عليه» أو «شوفي بنت أم فلان وين صارت الحين» ولكن لا يقولون «فلان أصبح كذا، وأنت ماذا تريد أن تصبح؟» التحفيز لا يكون بالتشبيه ولا بالمقارنة ولكن يكون بتحريك الطاقات الكامنة وتحويلها من داخل الفرد إلى خارجه، زميل لي توظف في أحد البنوك العالمية هنا، وكان بداية عمله هو دورة خارجية لا علاقة لها بعمله المباشر بل هي عن كيفية الانضمام للمجموعات وانجاز مهمة سويا ومواجهة المشاكل وتذليلها معهم، فذهبوا به إلى غابة مع مجموعة لا يعرفها وطلبوا منهم عبور بحيرة للوصول إلى الجانب الآخر، الخلاصة أنهم يهيئون البيئة للكشف عن مهارات الإنسان ومن ثم استثمارها. ليعلم الجميع أن أول وأفضل استثمار في الدنيا هو الاستثمار في الأبناء فهو الحقيقي. * إعلامي- ماجستير إدارة أعمال