تعتبر سياسة توجيه الاستثمارات واحدة من أهم المعايير الدالة على أولويات الأمم والأفراد في الحياة. إذ إن من المعلوم أن أيسر طريقة لمعرفة اهتمامات الناس النظر إلى الوجهة التي يستثمرون فيها أموالهم، فعلى سبيل المثال نرى دولاً وشعوباً تنفق الأموال الطائلة على مشاريع البناء والإعمار الضخمة بحيث أصبح التطاول في البنيان سباقاً بين العديد من المؤسسات أيها التي تبني الصرح الأعلى. وهنالك أمم تهدر ما آتاها الله من مال على شراء الفرق الرياضية العالمية وبناء الملاعب الفخمة ومضامير السباقات التي تتوفر فيها أحدث المواصفات وبأعلى التكاليف. بالطبع كل هذا يحدث في الوقت الذي ترك فيه عامة الناس وخصوصاً الشباب ممارسة الرياضة واكتفوا بمشاهدة مباريات الفرق العالمية من على أرائك مريحة، وبذلك تحولت الرياضة من ممارسة ضرورية للصحة وبناء الأجسام إلى ترفيه وترويح. ومن لم يجد المال الكافي لشراء فريق عالمي فهنالك مجالات لإنفاق المال في معاملات البورصة والمضاربة بالمشتقات المالية في مداولات أقرب ما تكون للمقامرة وأبعد ما تكون عن الاستثمار الرصين. كل ذلك طمعاً في الربح السريع وسعياً وراء المال من أقصر الطرق وبأقل جهد حتى أصبح الربح مثل السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً. وفي المقابل نرى مجتمعات وفقها الله لما فيه خيرها فتراها تنفق المال في وجهاته الصحيحة وهي بناء الجامعات والمدارس والمستشفيات وصروح العلم والإنفاق على طلبة العلم وإعداد الأجيال لما هو آت. وهذا هو الاستثمار الصحيح لأنه استثمار في الإنسان الذي يعتبر أهم عنصر في بناء الأمم. إن عملية الاستثمار في العنصر البشري ليست بدعة من بدع الزمان التي نراها يوماً ثم تختفي بعده، وإنما هي سمة بارزة من سمات فكرنا وتراثنا الإسلامي الذي تركناه خلفنا راكضين وراء كل ناعق، عندما كانت الأولوية في زاهر العهود مدارس العلم والإنفاق عليها وعلى العلماء والأطباء ووضع الأموال في أوقاف توفر مصدر دعم دائم لها. وللتدليل على ذلك اخترت قصة مشهورة من تراثنا المليء بالأدلة على أهمية بناء الإنسان والمردود الكبير الذي يمكن أن يأتي من الاستثمار فيه، وتلكم هي قصة التابعي الجليل ربيعة بن عبد الرحمن وأمه رحمها الله تعالى. كان فروخ أبو ربيعة، وهو من الموالي، يعيش في المدينةالمنورة وقد خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية وزوجه حامل بربيعة وترك عندها ثلاثين ألف دينار. وطال بفروخ الغياب وعاد بعد سبع وعشرين سنة، وكان وصوله في الليل لكنه اهتدى إلى منزله وعندما فتح الباب خرج ربيعة وقال يا عدو الله أتهجم على منزلي؟ فقال لا، ولكن أنت رجل دخلت على حرمتي فتواثبا حتى اجتمع الجيران ووصل الخبر إلى مالك بن أنس، فقال مالك أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ هي داري وأنا فروخ صاحب هذه الدار، فسمعت امرأته كلامه فخرجت وقالت هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فتعانقا وبكيا. ثم دخل فروخ البيت وقال لزوجه أخرجي المال الذي عندك وهذه أربعة آلاف دينار معي، فقالت: المال دفنته وأنا أخرجه بعد أيام. ثم خرج ربيعة إلى مسجد رسول الله وجلس في حلقته فأتاه مالك بن أنس والحسن بن زياد وغيرهم من أشراف أهل المدينة وتعلقت بربيعة الأبصار، فقالت أم ربيعة لزوجها فروخ اخرج للصلاة في المسجد فخرج فصلى، ثم رأى حلقة كبيرة فأتاها وتوقف عندها فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره وعليه قلنسوة طويلة شك أبوه فيه، فقال من هذا الرجل؟ فقالوا: هذا ربيعة بن عبدالرحمن... فقال لقد رفع الله ابني. فرجع إلى البيت، وقال لامرأته: لقد رأيت ابنك على حال ما رأيت أحداً من أهل العلم عليها، فقالت: أيما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار، أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟ فقال بل هذا. فقالت: فإني قد أنفقت المال الذي تركته عندي عليه وعلى تعليمه. فقال والله ما ضيعته. والعبر من هذه القصة القصيرة بعدد سطورها العظيمة بما تحمله من دروس ومعان كثيرة، لعل من أهمها وأعظمها النتائج الكبيرة التي تحصل من الاستثمار في العنصر البشري. فهذه المرأة الحكيمة مع أنها من الموالى لكنها عرفت بفطرتها السليمة الفرصة الأفضل لاستثمار المال الذي أودعه إياها زوجها واستطاعت أن تحقق لابنها ولعائلتها وأمتها أفضل النتائج التي لا يمكن الحصول عليها من أي استثمار آخر اقتصادياً كان أو غيره. وكانت النتيجة أن ربيعة أصبح فقيه أهل المدينة ومن كبار فقهاء جيل التابعين، لأنه نهل العلم عن جماعة من أصحاب رسول الله، وعنه أخذ مالك بن أنس وغيره رضي الله عنهم جميعاً، وكان إماماً حافظاً فقيهاً مجتهداً بصيراً بالرأي ولذلك لقب بربيعة الرأي، لأن أهل الحديث كانوا يلقبون الفقهاء الذين يأخذون بالقياس بأهل الرأي، لأنهم يقولون برأيهم في القضايا التي لا يوجد فيها نص من آية أو حديث ولكنها تشترك في العلة مع قضية معروفة فيجري عليها الحكم لاشتراكهما في العلة ويسمى قياساً، توفي ربيعة الرأي بالهاشمية من أرض الانبار في العراق وقيل في المدينةالمنورة. هذا المثال واضح الدلالة على النتائج الكبيرة التي يمكن أن تتحقق من الاستثمار في العنصر البشري وخصوصاً إذا كان الاستثمار موجهاً في وجهته الصحيحة. ذلك أن ربيعة لم يكن ليصير إلى ما صار إليه لولا حكمة الأم وإيمانها بالعلم وإدراكها لأهميته التي جعلتها تستثمر المال الذي تركه زوجها في تربية وتعليم ابنها النابه، وتلك كانت مخاطرة كبيرة من قِبلها، لكن إيمانها وسلامة فطرتها كانت أقوى من المغريات الكثيرة التي يمكن أن تجذب أموال الناس مثل التبذير على وسائل الترف أو ترك المال مخزوناً من دون فائدة تذكر. لكن المرأة آمنت بأن غاية المال هي بناء الإنسان والاستثمار فيه لكي ينمو ويكبر بعلمه وقدراته التي تخلق المال. كما أن هذه القصة دليل صريح وواضح على الدور المحوري للأمهات في تربية الأبناء وتنشئة الأجيال، ذلك الدور الذي انتبه إليه حافظ إبراهيم حين قال: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق ذلك لأني مؤمن -وأرجو أن يسامحني بنو جنسي من الرجال- بأننا لسنا من يبني المجتمعات، نعم الرجال يمتلكون القدرة على بناء العمارات وتشييد الصروح والمدن وإدارة المؤسسات والدول وإشعال الحروب لتدمير كل ما بنوا، وقد تقوم النساء بجميع ذلك، لكن هنالك خصوصية للمرأة وهي أنها هي التي تبني الإنسان، تلك المهمة التي لن يفلح فيها الرجال مهما حاولوا. والشواهد على ما أقول أكثر من أن تعد وتحصى، ومنها أن الله عندما أراد أن يربي موسى عليه السلام في قصر فرعون اختار المرأة المؤمنة آسيا زوج فرعون التي ضرب الله بها مثلاً للمؤمنين لتكون الحاضنة والمربية لنبيه الكريم. ولما أراد جل شأنه أن يجعل من عيسى عليه السلام أكبر آية لبني إسرائيل اختار أمه مريم العذراء قبل أن يولد المسيح وأودع تربيتها إلى نبيه الكريم زكريا على نبينا وعليهم جميعا أفضل الصلاة وأتم التسليم. أذكر هذه الأمثلة وأنا على يقين بأن كل واحد منا يمكن أن يقدم العديد من الأمثلة المشابهة من دور أمهاتنا جزاهن الله كل خير على ما قدمن لنا. وأنا أول من يذكر أهمية دور أمي في تربيتنا، وهي امرأة أمية لم تنل حظها من التعليم لكنها آمنت بفطرتها بأهمية العلم فرسمت لأولادها طريقاً واحداً للمستقبل، ذلك هو طريق العلم على الرغم من صعوبة العيش، مثلها مثل أي أم في الرياض أو الزبير أو القصيم أو غيرها من مدننا وقرانا. ومما أذكر أنها كانت تحاسبنا السبعة يومياً الواحد تلو الآخر وتجلسنا لنقرأ عليها الدروس. وكانت حين تُسأل عن كيفية متابعتها لدراسة أولادها وهي لا تقرأ، تجيب إذا صار أحدهم يتتأتأ بقراءته فأعلم حينها أنه لم يتقن دروسه. من أجل ذلك حين كان طفل من أبناء الجيران يبحث عمن يساعده في مادة اللغة الإنجليزية ولم يجد أحداً هرع إلى أمي التي طالما شاهدها وهي تراجع معنا الدروس، لكن الوالدة اعتذرت وقالت مازحة بأن تعليمها كان بالفرنسية. وأثمرت جهودها واستثمارها لوقتها والمال القليل الذي عندها أنها تركت وراءها إرثا كبيرا متمثلاً بثلاثة من أولادها حصلوا على شهادة الدكتوراه في منطقة ندر فيها من أنهى الدراسة الثانوية ناهيك عن الشهادة الجامعية. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو، كم منا يوقن بأنه لو ترك مالاً مع زوجته فإنها سوف توظفه لتعليم أبنائها كما فعلت أم ربيعة؟ ومع أن الجواب معروف، إلا أن تحديد السبب وراء تلك الإجابة هو المقصود من طرح السؤال، وهو أن مجتمعاتنا أهملت المرأة وتركت الاستثمار في تثقيفها وتوعيتها وإعدادها لتكون عنصر بناء الأجيال في المجتمعات، وبسبب هذا الإهمال قامت شركات التسويق بملء الفراغ عند المرأة فحولتها إلى آلات استهلاك وإنفاق وترف لا عناصر بناء وتربية. والعبرة الأخرى من القصة هي المكانة الرفيعة التي يشغلها العلماء في المجتمع آنذاك مقارنة بواقع الحال. حيث كان العلماء قادة المجتمع ومحط إعجاب الناس بلا منافس، ولذلك كان مطمح كل أم وأب أن يصبح ابنهم مثل ربيعة الرأي أو مالك أو أبو حنيفة أو الشافعي أو أحمد بن حنبل، وليس مثل زماننا الذي انقلبت فيه الموازين فأصبح الفنانون والفنانات ولاعبو الكرة هم الذين يشغلون دائرة اهتمام الناس وإعجابهم فتغدُق عليهم الأموال الطائلة بدون حساب، أما العلماء فلا أحد يأتي على ذكرهم ويهتم بشؤونهم ناهيك عن إنفاق المال في سبيل إعدادهم. إن المطلوب هو إعادة ترتيب أولويات المجتمع وتوجيه الجهود والموارد نحو إعادة بناء الإنسان في مجتمعاتنا وجعل ذلك على رأس الأولويات وعدم إهدار الثروات على وسائل الراحة والترف والترفيه التي لا تسمن ولا تغني من جوع. إن عملية الاستثمار في العنصر البشري تتطلب جهوداً مدروسة واستثمارات هادفة للوصول الى غايات محددة مترابطة بمعايير واضحة من أولها المرأة والاستثمار في تربيتها وتعليمها وإعدادها الإعداد الصحيح لكي تكون العنصر البنّاء في المجتمعات. وهذه القضية تتطلب مراجعة شاملة لمناهج التعليم وأساليبه ووسائله وخصوصاً منها الموجهة إلى الطالبات. وما علينا إلا أن نتذكر بأن أعظم فقهاء الأمة من جيل التابعين كانوا من تلامذة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومنهم عروة بن الزبير وعطّاء بن رباح إمام الحرم المكي بعد عبد الله بن عباس ومسروق بن الأجدع إمام الكوفة وغيرهم. ولم يقتصر دورها على تلامذتها بل تجاوز ذلك إلى أقرانها من الصحابة حتى أن الصحابي الجليل أبا موسى الأشعري قال: "ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما". * سفير العراق لدى المملكة العربية السعودية