إنَّها العاشرة صباحا، وآثار النوم الثقيل لا تزال بادية على وجهها، واليوم جمعة.. بالنسبة لها عطلة من الجري وراء «الأمل» بحثا عن منصب شغل يُعيد لها هدوءَ نفسها وسكينتها. مركز الشرطة.. قالتها دون غيرها من الكلمات لسائق سيارة الأجرة الذي انطلق كمن تلقى أمرا حتميا نحو الوجهة متوسلا أقصر الطرق وكأنه يجتهد في تخميناته. كانت مُتكِئة خلفه مسدلة جفنيها، غير راغبة في النظر إلى الحياة وهي تذب تارة كسلحفاة يائسة، وتارة كأرنب مذعور، وكانت علامات التَّعب والسهر الذي تُدْمِنه قد عبثت بملامحها الأسطورية كملامح آلهة غابرة، شاردة وراء مُحتوى المكالمة التي أيقظتها من النوم وطلبت منها الحضور لمركز الشرطة لأمر هام! لم تنتبه للسائق وهو يسترق النظر إليها من خلال المرآة أمامه كجاسوس مجاني، لم يوقفه فضوله عند هذه الحدود بل اخترق الصمت الذي تعمَّدته وقال: «مهنتكم صعبة جدا..» تنبَّهتْ لترى إلى من يتحدث فلم يكن سواهما في السيارة، واستطرد قائلا: «كانَ الله فِي عَوْنِكُمْ»، وقبل أن تستفسر أضاف «الشرطي يتعب كثيرا ولا عطلة له مطلوب دائما للحضور»، حرَّكَت رأسها بالإيجاب، فتوجُّسها من الاستدعاء المُلزِم يُبدِّد كل محاولات الابتسام أو الانخراط في أي حديث قد يأخذها بعيدا عن مخاوفها من نفسها، ومن ما قد سيسفر عنه اللقاء المُعلن، ومن الأيام القادمة. «وصلنا للمركز سيدتي»، تطلعت إلى العدَّاد وقبل أن تُعْطِيه أُجرة الرحلة أَقْسمَ أنْ لن يأْخذ أبدا، وحاول أن ينتزع منها وعْدًا إنْ هي ضبطته يوما ما بمخالفة أنْ تتغاضى عنه. وضعتْ يدها على نصف وجهها في محاولة لإخفاء سُخْريتها من ذكاءٍ لم ينفع صاحبه، ونظرتْ إلى خارج السَّيارة بكبرياء ثم نزلت دون أن تعِدهُ بشيء، وقبل أن يُغادر انفرجَت أساريرها وفاجأَتْها ضحكة هستيرية غير متوَقَّعة، استمرت معها تلك الهستيريا مدة اللقاء كاملةً. وبعد مغيب الشمس، عادت لمنزلها لا تتذْكُر شيئا ممَّا حدث داخل مركز الشرطة غير ابتسامة المحقِّق التي انقلبتْ في لحظات معينة تكشيرة كشفت عن أسنان بارزة كالسور المنيع من بين ما يَتَستَّرُ عنه زنزانة ضيقة مغلقة على كل عذابات الكون التي قد يعيشها المرء وسط صمت جماعي أنهكه التواطؤُ.