في ظل التشرذم العربي والصراع الطائفي اليوم مازلت أتصور أن التفكير في المشكلة جزء من أجزاء فهمها وحلّها، ومن ثم فإن الحل يبدأ بإعادة أهل النظر في أصل أي مشكلة تحيط بالإنسان وثقافته أو دينه، ولعل من مشكلتنا الكبرى التي تفرّق بين المسلمين اليوم هي المشكلة المقترنة بالتعصب والانغلاق وما خلفته من صراع متعدد الوجوه بين طوائف المسلمين من جهة، وبين علاقتنا مع الآخر من جهة أخرى، منحرفين بذلك عن جادة المصطلحات المستخدمة في منهج الإسلام ودقة معانيها، كون المصطلحات تمثل هوية خاصة في فهم المعاني، فمثلا نجد أن القرآن الكريم لم يناد بمصطلح «عقيدة» ولم يستعمل الكلمة، لكن المسلمين الذين أسسوا العقائد وأوقعوا أنفسهم وغيرهم في حروب لم تتوقف إلى الآن أضافوا إلى كتاب الله ما لم يشر إليه، وكأن المسلمين أعلم من الله في تقرير معاني الإسلام وحقيقتها، ومن بين ابتداعاتهم مصطلح واستخدام كلمة «العقيدة» ومعانيها التي حبست أنفاس المسلمين وفرّقتهم وقطّعتهم وصار بعض هؤلاء العقديين حاملين للعلم الإلهي يصنّفون الناس كفرا وإيمانا حسب أفكارهم التي صاغوها وعقدوا العزم على يقينيتها، وأوقفوا القلم وقالوا إنه لا يجوز بأي وجه من الوجوه مراجعتها كون مصطلح العقيدة العلم المطلق وغير قابل للمراجعة والنظر، بل أصبح بعضهم بنفس متجهمة وعين مقطبة موقّعا عن الله كما سماهم ابن القيم رحمه الله في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، فأصبح محور الإشكال أن واضعي «علم العقائد» من سنة وشيعة وأباضية ليسوا جماعة واحدة وإنما هم جماعات مختلفة فأنتجوا عقائد متعددة وصار صاحب كلّ عقيدة يدعو الآخرين لعقيدته ويكفّر من عارض وانتمى لعقيدة أخرى بحجة أن العقيدة الحقة هي التي ينتمي لها، ولكون عقيدته هي العقيدة التي أخبر بها هي مراد الله وقال بها السلف من الأمة. بل الغريب أن أنصار «العقائد» يقولون الحجة نفسها وينسبون أقوالهم إلى السلف وإلى الله ورسوله أيضا، والنتيجة التي انتهت إليها إقحام الإنسان بالصراع والتقاتل والتكفير باسم اليقين الذي تقر به كل فرقة وجماعة، بل منح بعضهم لنفسه حق التصنيف والتحكم في رقاب الناس وقلوبهم، فهذا مؤمن وهذا كافر، وهذا مؤمن وهذا مبتدع، وهذه فرقة ناجية وتلك فرقة ضالة منحرفة في النار، وبما أن أهل العقائد يفكرون بنفس الطريقة تقاتلوا ظنا منهم أو ادعاء منهم أنهم يدافعون عن الدين الحق متناسين أن أول البدع وأخطرها هي تمحورهم على مصطلح العقائد جميعا. وبما أننا إلى يومنا هذا مازلنا نتصارع عقديّا ويكفر بعضنا بعضا فإن من يتحدث عن التسامح في الإسلام يناقض حديثه بعقيدته التي يحملها ومعارضته لعقائد الآخرين الذين يحكم عليهم بالكفر والضلال، وهنا يبرز سؤال كبير.... كيف يمكن الادعاء بوجود تسامح في الإسلام والمسلمين مع القول بكفر المخالف وضلاله في الوقت نفسه؟ وكيف يمكن أن نجمع بين التسامح والعقيدة؟ والحال أن كل عقيدة مهما كان محتواها تفيد الانغلاق والثبات والإقرار بامتلاك الحق المطلق النهائي الذي لا ريب فيه. إن عقلية دينية هذا حالها تتعارض جوهريا مع مفهوم التسامح، كما تتعارض مع قيمه الحقيقية والفعلية في القرآن الكريم وسيرة النبي العطرة، وأمام هذا الواقع الداكن المنغلق لا حّل لنا إلا بالعودة إلى ما اختاره لنا الله والتوقف عند مصطلح «إسلام وإيمان وإحسان»، فالقرآن الكريم خاطب المؤمنين الذين يعقلون وليس الذين يعتقدون وينغلقون، إذ العلم في ماهيته يتعارض مع العقيدة لأن العلم بحث مفتوح متجدد، والعقيدة نسق مغلق، والقرآن الكريم خاطب الذين أوتوا العلم والإيمان وهؤلاء لا صلة لهم بالاعتقاد، فأهل العلم والإيمان هم الذين يتدبرون القرآن وينظرون في آيات الله الموجودة في الآفاق وفي أنفسهم، وهي آيات لا تتعارض إطلاقا لأن خالقها هو الله الذي أمرنا بالنظر فيها، وطريق النظر والتدبر والإيمان والعلم مخالف لطريق مصطلح الاعتقاد، فإذا كان الله قد أمرنا بأن نقرن الإيمان بالعلم لنكون أهلا لخطابه، فإنه بهذا أراد أن يميّز أهل العلم عن بقية الناس أجمعين كما قال سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»، وما الإيمان إلا ثمرة الاعتقادات المحاطة بالخلق والعلم، ومن ثم فإن أهل العقائد المتنافرة والفرق المتصارعة التي كتبت كتبها بأيديهم وقالوا هذا مراد الله وأعلنوا الحرب على مخالفيهم وصفهم القرآن الكريم بقوله: «تحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ»، فلو عقلوا ما تمزقت قلوبهم ولا ضاع إيمانهم، فعلم العقيدة والعلم ربما لا يجتمعان، وإن الاجتماع لا يكون إلا بين الإيمان والعقل، والإيمان والعلم، لهذا نصف العلماء بالمؤمنين، والمؤمنين بالعقلاء وهكذا فلعل هذا يكون ميدانا للتأمل.