بعد أيام قليلة من صدمة فوز ترامب التي لم تُفق منها حتى أقرب حلفاء واشنطن (بريطانيا) والتي كان برلمانها على بعد خطوة من إقرار قانون لحظر دخول ترامب الأراضي البريطانية، فوجئت وسائل الإعلام العالمية بالرئيس الأمريكي الجديد يعانق نايجل فيراج ويضحك معه بطريقة هيستيرية. صورة (نايجل) ذكرتني بتندر الإعلام البريطاني وتعليقات النخب وطريقته وحملته التي قادها للتصويت ضد البقاء في الاتحاد الأوروبي أكثر بساطة من إقناع أي شخص متعلم، وأكثر تطرفا من أن تُقبل في مجتمع تعددي ديموقراطي لينتهي التصويت بصدمة لم تتمنها الشركات والإعلام ولم ترصدها استطلاعات الرأي بانفصال بريطانيا. نايجل أرسل رسالة من البيت الأبيض بأنه مستعد للوساطة بين حكومة بلاده والرئيس الأمريكي المتحفظ (كما قال نايجل) على سياسات رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التي خلفت كاميرون الذي أعلن استقالته بعد صدمة انفصال بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن كيف استطاع ترامب وقبله نايجل من تغيير المعادلة؟ هل نحن أمام ضرورة لتغيير قياسات الرأي العام؟ هل فقد الإعلام الأقوى في العالم وأقصد (الأمريكي والبريطاني) تأثيره أمام وسائل جديدة؟ أم أن الشركات المهيمنة (كما يصُطلح بخصوص الشركات الكبرى التي تصبح مؤثرة في صناعة القرار) هُزمت؟ أم أننا أمام مرحلة جديدة في إدارة العلاقات العامة بكافة صورها؟! في الواقع تصرفات ترامب (وقبل نايجل) لم تكن اعتباطية، وحملاته التي اعتبرت الأقل مستوىً والأضعف إقناعاً، والأكثر أخطاءً في تاريخ الحملات الأمريكية لم تقلل من حظوظه؛ بل كانت ردود الأفعال من قبل الإعلام واستطلاعات الرأي وفريق كلينتون يعززون من فرص ترامب في الفوز من حيث لا يدرون. في أمريكا اعتمد ترامب وفريقه على إعادة تقسيم الجمهور الأمريكي بعيداً عن الطريقة التقليدية التي تراهن نفوذ الجمهوريين في مناطق والديموقراطيين في مناطق أخرى ومحاولة كسب الولايات المتأرجحة بوعود قلّما تحققت، وبدلاً من ذلك أعاد تجربة نايجل في استصناع خريطة جديدة وفئة مرجحة جديدة لم تكن مسموعة الصوت في الغرب لأسباب تتعلق بالأعراف الديموقراطية والأخلاقيات العامة التي بشرت بها الحضارة الغربية. في أمريكا بدأ ترامب مبكراً باللعب على وتر العرقيات والأديان والجنس ليحول الجمهور الأمريكيين من حيث العرق إلى بيض وسود ولاتينيين (هيسبانيك)، ومن حيث الجنس إلى رجال ونساء، وأخيراً من حيث الأديان إلى إنجيليين ومسلمين وغير ذلك. ومع تفاعل الإعلام والسياسيين والديموقراطيين ضد تصريحات ترامب العنصرية، وما اعتبروه محاولة لتفتيت المجتمع كان ترامب يحقق هدفه في تحويل اللعبة الانتخابية من تقليدية اقتسام الولايات إلى تقسيم الشعب الأمريكي إلى كيانات والاستئثار بالمكون الأكبر وهو بلا شك (الرجال البيض الأنجيليون والمحافظون عموماً). آلية عمل ترامب لم تُشابه ما اعتادت عليه آليات وكالات العلاقات العامة ووسائل الإعلام التقليدية في أمريكا، ولهذا جاءت توقعات وسائل الإعلام الأمريكية ودور قياس الرأي العام الشهيرة منحازة لكلينتون إلى ما قبل التصويت بيوم، في صباح اليوم التالي أصبحت الأمور واضحة. صوت الرجال البيض في أمريكا بصورة أكبر لترامب لأنه أشعرهم بأنهم مجرد أقلية تتنافس مع الأفارقة واللاتينيين في سباق غير متكافئ إطلاقاً، أما الشريحة المرجحة الجديدة فلم تكن فلوريدا والتسع الولايات التقليدية الأخرى، وإنما حصول ترامب على أصوات النساء بنسبة لم تبتعد كثيرا عن الأصوات التي حصلت عليها كلينتون رغم عنصريته ضد المرأة، وجذب ثلث أصوات اللاتينيين في أمريكا بالرغم من تصريحاته ضدهم..! ما حدث هو أن حملة ترامب التي قامت على التعبئة ضد المسلمين والمهاجرين استهدفت حشد شرائح جديدة لم تكن موجودة سابقاً ولا تدخل لعبة استطلاع الرأي أهمها النساء غير المتعلمات والتي سجلت أكبر معدل تصويت في تاريخ الانتخابات الأمريكية وصوتت لصالح ترامب. اليوم باختصار نحن أمام عالم جديد بدأت نُذره في بريطانياوأمريكا، قائم على معادلات أكثر تعقيدا وخطورة، ويبقى السؤال هل ستفرز هذه التحولات قيما جديدة وتحالفات مختلفة؟ أعتقد ذلك.