في طفولتي كان هو الرجل الأول الذي مثل لي القدوة، ظهر لي دائما نموذجا للنضج والرجولة والنبل والأناقة في ملبسه وحديثه وسلوكه وسيارته، كان موظفا متعلما في زمن عز فيه المتعلمون حتى ان الشهادة الابتدائية تشكل مدخلا مهما للحياة العملية والنفوذ، كان يقود سيارة حديثة تلفت أنظار صبيان الحارة والحارات المجاورة، وكان يضع في جيبه قلما باركر 61 ونظارة بشاوري (برسول) شمسية. هذا أخي محمد الذي كنت أمتلئ زهوا وفرحا كلما جاء لزيارتنا من رحلاته المتعددة، أستمع بشغف لأحاديثه، وأفرح حينما يطلب مني أن أقرأ الجريدة التي يحضرها معه بصوت عال، مثنيا على فصاحتي، لكن ما ربطني به عاطفيا - منذ تلك الايام البعيدة - طيبته المتناهية التي لا تعكرها نوبات قليلة وقصيرة من الحدة في المواقف والاقوال سرعان ما يزول اثرها وكأنها لم تكن، ولا يوجد أقدر من طفل في معرفة طيبي القلب. حنوه علي في طفولتي وصباي استمر توجيها ومتابعة وفرحا حقيقيا بإنجازاتي. في المرحلة المتوسطة اصطحبني معه من الرياض إلى الدمام ليضعني لأول مرة في مواجهة عالم الصحافة السحري، شاهدت بدهشة مراحل إعداد الصحيفة وطباعتها في المقر القديم لصحيفة «اليوم» قرب السكة الحديدية، وأذهلني حقيقة أن العاملين يسهرون طوال الليل لتصدر الصحيفة في الصباح، حدثني بفخر عن جهاز جديد يقوم بتصوير الصفحات والتحكم في حجمها فيما يبدو لي الآن أنه من بدايات تقنية الأوفست في الطباعة، وعرفت منه أنه عمل مراسلا للصحيفة من الرياض قبل ذلك. هذه التجربة اختزنتها في عقلي الباطن ونسيتها حتى انفجر لغمها حين وضعتني أقداري في المسار الصحفي دون اصرار ولا ترصد.. أو هكذا ظننت! ودون إصرار ولا ترصد أيضا وضعتني أقداري في نفس الموقع الذي احتله أخي أيام تلك الزيارة الليلية في قيادة صحيفة «اليوم» ثم جمعتنا منصة تكريم واحدة حين كرمت الصحيفة رؤوساء تحريرها السابقين في عيدها الخمسين. الصِلة بينه وبيني تجاوزت - دون شك - صلة الأخ الاكبر بالاصغر رغم فارق عقدين من العمر، كنا اصدقاء إن سافرنا سويا او جمعنا مجلس، أبناؤه يعرفون مكانتي عنده فيستفزعون بي إن تأخر في موعد طبيب، وكان يسمع مني غالبا، لكني كنت اخشى عتابه الرقيق إن تأخرت بالاتصال به والسؤال عنه أو زيارته، وهذا هاجس سيطر علي مع دخول اول ايام شهر رمضان الماضي فقد تأخرت بالفعل بتهنئته حتى جاءني الاتصال المفجع: ابو نادر اصابته ازمة قلبية حادة ودخل في غيبوبة. ثلاثة اشهر ونحن معلقين بحبل الرجاء في الله أن يفتح عينيه يوما وينتهر الممرضات حول نظافة الغرفة، أبناؤه وبناته البررة يحرصون على تشذيب لحيته وشاربه على نفس المظهر الذي حافظ عليه منذ أن عرفته، حتى ونحن نشارك في غسل جسده الطاهر لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في انه سيعطي ملاحظات كثيرة حول الماء المستخدم والسدر والكافور والطيب. رحمك الله يا محمد بقدر ما أجمع الناس على طيبة قلبك وحبك الآخرين... كل الآخرين، اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد، اللهم نقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. (إنا لله وإنا إليه راجعون). المرحوم باذن الله محمد البازعي