ما أن أفكر في مصطلح (البيروقراطية) إلا وتتداعى أفكاري مع (الروتين) والجمود، فالبيروقراطية والروتين كل منهما شرط لوجود الآخر واستمراره، كما أن جميع المصطلحات التي تتناقض مع المرونة والتطور لها علاقة وطيدة بالسيدة (بيروقراطية)، وفي كل مرة أستنفر فيها ارشيف ذاكرتي يمر أمامي ذلك الشعار البيروقراطي القديم، الذي يكتب على بعض المعاملات في الكثير من الجهات، المتمثل في خربشة مدير الإدارة الذي عنوانه: (أكملوا اللازم)، أو (لاجراء اللازم)، وهي نغمة مفضلة لقطاع او (قطيع) كبير من البيروقراطيين، كما انها شعار يختزن داخله قدرة (الحرباء) على التلون، ويحتوي على شيء من الغموض الممتنع عن التفسير. ويعتبر من أهم لوازم البيروقراطية التي أصبحت جزءا من عقلية الإداري الفاشل (الروتيني) الذي يخشى المسؤولية أو يتهرب منها، كما انها صمام الأمان الذي به يتفادى المدير الفاشل خطابات التوبيخ (شديدة اللهجة) التي قد تصله ممن هو أعلى منه، التي تعتبر في نظره اقوى اثرا ومفعولا من سم (الشوكران) الذي تجرعه سقراط بعد محاكمته الشهيرة التي دونها التاريخ، وما أكره كلمة (اكملوا اللازم) إذا كانت هي الشعار الوحيد او العبارة الوحيدة التي يخطها قلم (المدير) على كافة الأوراق. في الغالب نجد هذا الشعار مكتوبا كبداية لاجراء ما، على معاملة ما، فالمدير يكتبه على معاملة المراجع، وحين تصل تلك المعاملة الى رئيس القسم يكتب عليها: (اعتمدوا شرح المدير)، وكأنه يقول: (ما أشير إليه امشوا عليه). فيا له من رئيس مبدع، فقد فسر الماء بعد الجهد بالماء! وهكذا تسير المعاملات في الإدارات البيروقراطية، ولا يوقفها سوى مكابح (فرامل) جورج وستنكهاوس عند أصغر موظف، ليكمل تلك الحلقة المتواصلة من الروتين والتهرب من المسؤولية! لو وضعنا هذا الشعار البيروقراطي تحت مجهر السيد (فرويد) للتحليل النفسي لوجدنا ان آليات الحيل الدفاعية الفريويدية تشع كالشمس من خلال هذا الشعار، ولوجدنا أن له منفعتين، الأولى: أنه يبين لنا المتهربين من المسؤولية، والثانية: مع الأسف أنه في كثير من الأحيان ينجي صاحبه من اللوم والمساءلة! وفي كلتا الحالين يتضرر المراجع (المسكين) الذي يبقى (محلك سر) كضحية لبيروقراطية عقيمة. ولعل من لوازم البيروقراطية الأخرى وأخطرها، التي يحرص المدير الفاشل عليها هي: (نظرية الحضور والانصراف)، والكثير من الموظفين يعون تلك (النظرية) جيدا، وبمقدورهم التكيف والتأقلم معها، لذا تجدهم ملتزمين بالحضور في الصباح الباكر، وينصرفون في الوقت المحدد، وهذا هو قمة الرضا الذي يطلبه الاداري الفاشل من موظفيه، ولا يهمه الانتاج أو الابداع، ففي نظره ان قمة الانتاج والابداع هو (توقيع الحضور) في الصباح و(الانصراف) عند نهاية (الدوام) وهو جل ما يحرص عليه !! أما الجملة السحرية التي تقدم حلولا حازمة وحاسمة، وتحمل في طياتها شرحا مختصرا ومفيدا، لكنها قليلة الاستعمال، هي: (لا مانع).. فهي تمر بسلاسة ويسر، وما اجمل مرورها، وما احلى وقعها على قلب المراجع، وهي من الجمل التي لا يمكن أن يكتبها إلا مسؤول ناجح واثق في نفسه، كفؤ للمسؤولية، والسؤال هنا: كم مرة في اليوم - عزيزي الموظف - تشاهد كلمة (أكملوا اللازم) مكتوبة على المعاملات؟!.