اشرت في جزء المقال الأول إلى أن عنوانا لكتاب يتناول «العين والحسد» كان سببا في ظهور فكرة المقال، وأن هذه العناوين الجذابة تأخذنا إلى إشكاليات عدة، كالمتن المُهترىء للكتاب، أو الجشع المادي للناشرين، أو خيانة المنهجية العلمية وأخلاقياتها، واتفقنا في نهاية المطاف على أن عنوان الكتاب له سحره الخاص وجاذبيته الخاصة، بل والمخادعة أحيانا للقارىء، فلربما خرج من فخها صفر اليدين. أما الكتاب الذي أوقد الشرارة وأعطى الإشارة فهو كتاب طريف، يخوض في مدارات قلما تُطرق، وقد اعتبرناه ذكاء لدى بعض المؤلفين الذين يجيدون الالتقاط ويحسنون اختيار مواضيع تتسم بالإثارة والقدرة على جذب السواد الأعظم من الناس، وأحسب أن موضوع العين والحسد على رأسها لقوة حضوره المجتمعي وانعكاساته النفسية على الأسر والأفراد. استهل المؤلف بتعريف «الحسد» وتحديد مفهومه، وتداخل مصطلحه مع مصطلح آخر قلما يستخدم وهو «الغبطة» لكن اللقطة الأنيقة في هذا الكتاب هي التتبع التاريخي المقنع إلى حد كبير لفكرة الحسد أو العين، منذ أن خلق الله الكون ومن عليه، واللقطة الأقل أناقة فيه وقوع المؤلف في دائرة التسويق للكتاب بإلحاق فصل للوقاية والعلاج من الحسد، وأقول: تسويقا تجاريا لأنه الفصل الأهم لدى القُراء والمعنيين، ويعنيهم أكثر تاريخ الحسد ومسارات تحولاته البشرية، وهذا ما يدفعني للتأكيد على مدى سلطة الناشر وأثره كونه يعرف ما يريده القارىء بالضبط، وهذه رؤية تخمينية اقترح وقوعها ولا أجزم بها. بدأ الكاتب رحلته مع الحسد بفصل طريف وهو الحساد الأوائل كحسد «إبليس» ولقبه بأول حاسد في السماء، وانطلق منه إلى حسد «بني آدم» بتجسده في القصة الشهيرة بين «قابيل» و«هابيل» وأعطاها لقبا مقابلا للأول: أول حاسد في الأرض، وبدأت حكايا الحسد تتسلسل تباعا، فكان حسد أولاد «إسرائيل» أخاهم «يوسف» ولقبه بأول حسد بني «إسرائيل». من لطائف هذا الكتاب دخوله في الحضارات والديانات القديمة، ومحاولته رصد فلسفة الحسد لديها، كونه يعتبرها أساس تجليات الحسد التي تؤمن بها شعوب اليوم، والدليل كما يقول الكاتب: اشتراك غالبية اللغات في الإشارة إلى الحسد باستخدام لفظ «عين» حين تتفق العربية والعبرية على استخدام عبارة «عين حارة»، وفي الإيطالية «مالوكيو» وفي الإسبانية «مالوخو»، وفي الفارسية «بلانابد» وجميعها تعني: «العين الشريرة». يجوب الكاتب في رحلته تلك الحضارة الفرعونية، ويحدد موقفها من الحسد وكيف ابتكرت من الأساليب والطرق ما يعينها على درء شره، لكن الغريب هو بقاء بعض تلك الأساليب حتى يومنا هذا لدى الشعب المصري، كاعتقادهم الشعبي بفكرة «الخمسة وخميسة» التي تسمى في الأصل الفرعوني «دِت» وتعني الكف، وقس على ذلك كثيرا. يأخذنا بعدها المؤلف صوب حضارة العراق ويرصد عاداتها وتقاليدها في هذا الجانب، ثم يرحل إلى الفينيقيين، ومن ثم إلى الإغريق والرومان والشعوب الأوروبية القديمة. لا يقفل الكاتب الحسد في الثقافة العربية وينطلق من العصر الجاهلي راصدا مظاهر الحسد فيه، ثم يبدأ تحديد موقف الديانات من الحسد، ويبدأ بالديانة اليهودية، ثم المسيحية، وينتهي بالدين الإسلامي الحنيف، ويلفتنا فيها لوجود ما يُسمى الحسد المُباح، في قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار»، وهذا بالتأكيد ما نسميه «غبطة».