إن ما نراه يوميا من سلوكيات منتشرة ومتكاثرة في إهدار النعم من مأكل ومشرب هو مؤشر خطير جدا، ولا ينبغي أن يمر مرور الكرام، بل لابد من التدخل للحد منه، ومعالجة تلك السلوكيات والتصرفات غير المقبولة دينيا ولا عقليا ولا اقتصاديا! هذه السلوكيات ربما كانت موجودة على استحياء وفي الخفاء منذ فترة، ولكن ساعد وساهم على كشفها وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. وتلك المقاطع المرئية والصور المنتشرة تبين حجم الفاجعة في إهدار وإسراف كميات مهولة من الطعام كأننا نملك مصدرا لا ينضب!!.لقد كان هناك بعض من الهاشتاقات على توتير وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي تحث على أهمية حفظ النعمة، وتلك مبادرات فردية حسنة، ولكن ما زال يطل علينا كل يوم وآخر مقطع فيديو يدمي القلب من كثرة رمي النعم والتساهل في هذه المسألة. وكم من صور رأيناها لأطباق كاملة تكفي حاجة جماعات وأفراد ترمى للقمامة، وبعضها متروك في الطرقات أو الحدائق أو المتنزهات. أين عقول وقلوب الذي يستمرئون هذا الفعل الشنيع ويعدونه أمرا طبيعيا؟! لا أود أبدا أن يكون الحديث في هذا الموضوع يذهب أدراج الرياح!! لأن ما نتحدث عنه هنا يخصنا جميعا كمجتمع لأنه حين تنتشر ظاهرة كهذه، فلا بد من معالجتها قبل أن تستفحل وتغرق السفينة بالجميع. من ناحية اقتصادية نحن نلعب ونعبث بالموارد الطبيعية الحيوانية والنباتية، وحسب بعض الإحصائيات فإن ثلث الطعام والشراب الذي نعده للأكل يذهب هدرا وإسرافا. والمبالغ المقدرة لحجم هذا الإسراف تتراوح بين 30 و50 مليار ريال سنويا!! فكم مدرسة أو مستشفى أو حديقة نستطيع أن نبني بهذا المبلغ؟! بل كم من جائع نستطيع أن نُشبعه في بلدنا والبلدان الأخرى المحتاجة؟ أضف إلى ذلك أننا حين نسرف في استخدام الطعام أكثر من حاجتنا، فبداهة أن يكون الطلب أكثر من العرض، وترتفع أسعار المواد الغذائية والحيوانية ثم نحن نشتكي من ذلك!! وقد أعجبتني فكرة أحد المطاعم، حيث كتب على ورقة للزبائن مفادها: خذ قدر ما تأكل، لأن الطعام المهدر بالأمس كان يكفي لطعام أكثر من ألف شخص. وأما من ناحية دينية، فأعتقد أن الآيات والأحاديث التي تتحدث عن هذا القضية كثيرة ومستفيضة ويكفي قوله سبحانه وتعالى: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا» وجاء في الحديث أن النبي (عليه الصلاة والسلام) مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جار. ولو نظرنا للمسألة من ناحية أخلاقية واجتماعية وإنسانية، فهناك آلاف بل الملايين من الأفواه والبطون الجائعة من إخوان لنا في الدين والعروبة والإنسانية لا يجدون رغيفا، فضلا عن وقت يومهم، ثم هم يرون البعض منا (عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي) جهارا نهارا يعبثون بالنعمة بإسراف وبلا مبالاة، فما الرسالة التي نوجهها إليهم بهذه الأفعال؟!. ولو تأملنا القضية من زوايا أخرى، فالدنيا دول والحياة سُنن. وكم أعجبتني كلمة قرأتها هي موجزة ومعبرة حيث قال أحدهم: قد حدثناكم عن جوع مر بنا، وإني لأخشى أن تحدثوا أبناءكم عن نعمة مرت بكم!.وقد جاء في كتاب العقد الفريد أن العتبي قال: رأيت محرزا مولى باهلة يطوف على بغلة بين الصفا والمروة، ثم رأيته بعد ذلك على جسر بغداد راجلا، فقلت له: أراجل أنت في مثل هذا الموضع؟! قال: نعم، إني ركبت في موضع يمشي الناس فيه، فكان حقيقا على الله أن يُرجلني في موضع يركب الناس فيه». أعتقد أنه آن الأوان أن تسن قوانين وإجراءات، وأن يكون هناك جزاءات وغرامات لكبح جماح هذه التصرفات والممارسات المخجلة، ووضع آليات للتطبيق لمراقبة تلك التصرفات. يقول ابن خلدون: إن الترف عين الفساد، وهل هناك أكثر ترفا من نعمة تُرمى؟!. * م. الهندسة الميكانيكية