بعد غياب طويل.. وصلت مطار العقيق.. كنت أحمل الشوق والتطلعات.. استقبلتني أرض أجدادي.. تحمل أول صوت لي.. تحوي الجذر والبذر.. كل من حولي يحمل ملامحها وتضاريسها البيئية.. كنت منهم.. دخلت صالة القدوم.. استقبلني عامل أجنبي.. يكتسي سحنة الوقار.. تولّى أمر حقائبي.. كان مبتسما في غربته.. أغرتني أخلاقه الإيجابية بتكريمه.. حقائبي تحمل نفسي. استقبلني صديق الطفولة المهندس علي الخازم.. عاد من الرياض بعد تقاعده.. عاد إلى قريتنا (الطلقية).. عاد بهيئة جديدة.. بفكر جديد.. ببيت جديد.. بوسيلة نقل جديدة.. بعلم جديد.. بخبرات ومهارات جديدة.. لم يعد إلى قريته القديمة.. أسس لنفسه قرية جديدة وحديثة.. تحمل كل ملامح التغيير الحضاري.. أتساءل: هل الحق بعودته؟! هل تكون هناك هجرة معاكسة لجيلي؟! أصبحت القرية القديمة مقبرة لكل شيء كان.. مقبرة لحجر البيت الذي شذبته سواعد الآباء.. لجذع شجر البيئة الذي يحمل طين سقف البيت.. مقبرة لتراث الأجداد المهاري الزراعي والمائي.. مقبرة رسمنا حروفها بهجرة لم تكن محسوبة.. هجرة ستستمر تأثيراتها السلبية والايجابية إلى آخر التاريخ. نظرت إلى العامل الوقور.. عرف المعنى قبل حديثي.. قال: عشرة ريالات للشركة.. فهمت قصده.. وصلت قريتي.. كانت نفسي أشبه بدار سينما لعرض الأفلام الوثائقية.. استعرضت كل أفلام سني حياتي في القرية.. استعرضت كل شخصيات طفولتي.. ساد الصمت.. زادت ملامح الوجه حدّة.. تيبّست تقاسيم الوجه.. عشت هول المقارنة. الحاضر أمامي.. الماضي أمامي.. المستقبل أمامي. كتبت.. سجلت.. استمر فعل الملاحظة والمقارنة.. تعددت المشاهد.. قرأت المؤشرات.. دونت النتائج.. توسعت مساحة المعلومات.. أصبحت منطقة الباحة في نفسي معمل تشريح.. هبّت رياح التغيير.. لم تتوقف.. التناقضات تعيش في تآخٍ بجانب بعضها البعض.. ترى ملامح قوة المال.. ترى همّة إنسان المنطقة.. ترى صدق حبهم واخلاصهم.. ترى معالم الجهود الحكومية.. دونت قطاف لحظات التأمل.. نشرت بعضها على صفحات التواصل التقني.. رحلت قريتي القديمة مع أهلها الذين رحلوا.. وجدت أرض قريتي معرضا لمعالم حديثة. حصدت الحقائق.. أعطيتها الاهتمام.. اجتهدت في تفسيرها سلبا وإيجابا.. المشاهد تحتمل الشيء ونقيضه.. التغيير لا يتحقق إلا برياح تأتي.. على قوتها تتوقف النتائج.. وجدت منطقة الباحة مدينة على شكل سلسلة طويلة.. تحولت كل قرية إلى مدينة.. ارتبطت بالقرية المجاورة.. هكذا تحولت قراها القديمة إلى نقاط شد بين حلقات سلسلة البناء والتعمير.. حلقات من قرى شكلت منطقة الباحة. جبالها.. سهولها.. وديانها.. تضاريسها.. ناسها.. مكونات للوحة المكان والزمان. لوحة اسمها منطقة الباحة.. منطقة حجازية.. هكذا تقول وثائق التاريخ وكتبه وملامح الفتوحات الإسلامية.. وحتى الستينيات من القرن الماضي.. كانت تابعة لإمارة مكةالمكرمة.. ثم أصبحت منطقة إدارية مستقلة بإمارة ومحافظات.. أقول هذا لأقدم الشكر لإمارة الباحة.. أيضا للجهات المسئولة. شكرا لإمارة منطقة الباحة ورجالها المخلصين.. لأميرها صاحب السمو الملكي الأمير مشاري بن سعود آل سعود.. عشت الإنجاز واستمتعت.. قرأت رموزه ومؤشراته الإيجابية بكل وضوح. شكرا لبلديات منطقة الباحة.. الجهود واضحة.. كل بيت في قريتي مخدوم بالطرق المسفلتة.. وهكذا بقية قرى المنطقة.. المنتزهات تتحدث بجمال تصميمها.. أتحدث عن إيجابيات رأيتها كزائر.. الأجمل في منطقة الباحة.. أنك تستطيع زيارة كل محافظاتها في يوم واحد.. منطقة تحولت إلى مدينة واحدة. شكرا لشركة الكهرباء.. الحديث عنها يطول.. غادرت منطقة الباحة وكان يكتنفها الظلام.. اليوم الكهرباء في كل بيت.. وإن تعلق في رأس جبل لوحده.. في الليل ترى نقاط ضوء المصابيح في كل ارجاء مساحتها.. تتحول إلى لوحة متلألئة بالأنوار كالنجوم.. «أضيئت لياليها.. لم يعد للعصا ومحزم الخنجر في جنبك حاجة».. من رسالة أرسلتها ل(غازي القصيبي).. رجال غرسوا الكهرباء.. وبها غرسوا الحضارة ومضوا. شكرا للجهات المسئولة عن الطرق.. لم تعد للمسافات معاناة.. تقاربت الدنيا بمنطقة الباحة.. شبكة طرق تنقلك بين شعابها وقراها وجبالها وأوديتها.. تتساءل كيف تحققت.. لو لم يكن في منطقة الباحة غير الطرق لكان كافيا أن نقول شكرا ونفتخر. الشكر موصول للجهات المسئولة عن الاتصالات.. ربطت منطقة الباحة بالعالم كبقية مناطق المملكة. كنت زائرا من أهل الباحة.. شاهدت الإنجاز والجهد والتطلعات.. رسائل تحمل الاهتمام بالمنطقة من دولتنا حفظها الله.. حتى عقول أبناء المنطقة جزء من إنجازاتها.. عقول تعلمت وأبهرت.. تعمل في كل بقاع المملكة.. انتماء.. ولاء.. تعاون.. محبة.. إخلاص.. الكل تحت مظلة وراية التوحيد.. ستظل خفاقة بعون الله.