تصدرت أزمة النظام الرأسمالي الصحف والمجلات ومراكز دراسات يمينية ويسارية في امريكا وأوروبا والاتحاد الروسي هذا العام. جميعها يقرع الطبول خوفا وتحذيرا وبعضها شامت «المطبوعات اليسارية» من الاوضاع التي يعيشها النظام الرأسمالي الذي ظل مسيطرا على العالم بعد الحرب العالمية الثانية. في ما يلي استعراض لبعض النماذج مما تداولته محركات البحث على الشبكة العنكبوتية تلي ذلك ترجمة لما اوردته اهم هذه المطبوعات «مجلة الشؤون السياسية الامريكية» التي تحظى باهتمام كبير بين واضعي السياسات ومتخذي القرار ووسط الطبقات المستنيرة. من جهته لفت استاذ علم الاقتصاد السياسي في جامعة براون مارك بليث الانتباه- من خلال استعراض ومراجعة ثلاثة كتب صدرت مؤخرا الى الصراع بين النظام الرأسمالي والنظام الديمقراطي وكيف ان الاول يواجه ازمة حقيقية قد تتسبب في نهايته. لكنه تجنب رغم الامثلة الكثيرة التي اوردها عن غموض مستقبل النظام الرأسمالي والمشاكل التي تواجهه في موطنه الولاياتالمتحدةالامريكية والغرب بصفة عامة أن ميزان الصراع يميل لصالح النظام الديمقراطي. وقال البروفسور مارك إنه ومنذ ظهور ديمقراطية الشعوب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حدث توتر عميق بين الرأسمالية والديمقراطية السياسية، فالرأسمالية تعمل على تخصيص الموارد من خلال الاسواق فيما تحرص الديمقراطية على تولي السلطة من خلال صناديق الاقتراع. لم يتقبل خبراء الاقتصاد وجود هذا التوتر بسهولة وجاء اقتناعهم به بطيئا، ومالوا بدلا من ذلك الى النظر للاسواق على انها بمثابة فضاء تنشط عناصره خلف ميادين السياسة واعتبار السياسة كشيء اعتراضي جاء لتنظيم ادوات ضبط النفس. من خلال هذا الصراع حددت السياسات الديمقراطية والرأسمالية مسار عالمنا الذي نعيش فيه اليوم. فلا ينبغي اعتبار السياسة او النظر اليها على انها خطأ اعترض او جاء ليعيق عمل الاسواق. وأضاف أن الصراع بين الرأسمالية والديمقراطية السياسية والتنازلات التي اضطر ان يقدمها كل منهما للاخر تسببت مع مرور الوقت في حدوث صدامات بينهما شكلت عالمنا السياسي والاقتصادي المعاصر. خلال الثلاثة العقود التي اعقبت الحرب العالمية الثانية عكفت الديمقراطية على وضع القواعد التي تحكم السير. وافلحت في ترويض واستئناس الاسواق عن طريق وضع القوانين التي تحمي العمل وكذلك اللوائح المالية المقيدة ووسعت نظم الرعاية الاجتماعية. لكن في سبعينيات القرن الماضي بدأت رأسمالية جديدة معولمة اعيد تنظيمها متحررة من الحدود السياسية ومتجاوزة لها ترد الهجوم وتضغط للعودة الى الوراء. واليوم سيطرت الاسواق الرأسمالية والرأسماليون على الساحة وفرضوا قواعد اللعبة التي وجدت الحكومات الديمقراطية نفسها مجبرة على اتباعها والانصياع لها. وتسببت سيطرة رأس المال هذه –حسب قوله- في اثارة ردود فعل غاضبة. ومع اتساع فجوة عدم المساواة وركود الاجور الحقيقية لمعظم الناس ومسارعة الحكومات لانقاذ المؤسسات الثرية اصبح الناس يواجهون المتاعب واقل استعدادا لتقبل ما يعرف بكاليف التكيف كحلول لا بديل لها. في مثل هذه اللحظات يحدث تحرك مزدوج على حسب قول المؤرخ المجري كارل بولاني من قبل اولئك الذين يشعرون بأنهم اصبحوا ضحية سيطرة الاسواق فيعملون لاستعادة السيطرة على آليات الدولة لحماية انفسهم. وافضل مثال على هذا التفاعل صعود بيرني ساندرز ودونالد ترامب في الولاياتالامريكيةالمتحدة ومثله صعود نجم الاحزاب الشعوبية في اوروبا. وأصاف كارل أنه مؤخرا صدرت ثلاثة كتب تسلط الضوء على هذا التجاذب المستمر بين متطلبات السوق وما يريده الشعب في الولاياتالمتحدةالامريكية. هذان العاملان معا يقدمان سيرة ذاتية للرأسمالية.. من اين جاءت وما هو الخطأ الذي حدث والى اين يمكن ان يمضي كل ذلك في عالم معايير العيش فيه في حالة ركود وحالات عدم المساواة تتسع بشكل مستمر وعمليات انفاث الكربون تتصاعد. الصورة التي ترسمها امامنا هذه الكتب الثلاثة امامنا صورة قاتمة. صعود الرأسمالية الكتاب عبارة عن تاريخ مختصر للرأسمالية. يحكي مؤلفه الالماني يورغن كوكا في 167 صفحة سيرة الرأسمالية من بداياتها متتبعا جذورها البعيدة على طرق التجارة في بلاد ما بين النهرين وحتى الازمة المالية عام 2008م. مثل هذا العمل ليس عملا عاديا وهو يتطلب بعض التبسيط وله تبعاته. بالنسبة لكوكا الرأسمالية ما هي الا فكرة لفهم الحداثة. والاهم من ذلك هي عبارة عن منظومة مؤسسات تكرس حقوق الملكية وتعزز استخدام السوق كوسيلة لتخصيص الموارد وحماية رأس المال. وهي ايضا في رأيه عبارة عن مجموعة مبادئ ومفاهيم. تعريف الرأسمالية بهذا المفهوم الموسع اتاح لكوكا رؤية اشكالها القديمة تتطور وتنمو وسط التجار في بلاد ما بين النهرين شرقي البحر الابيض المتوسط وعلى امتداد طريق الحرير الاسيوي حتى القرن الحادي عشر عندما ظهر تجار الرأسمالية البرجوازية في شبه الجزيرة العربية وبلاد الصين. لم تظهر الرأسمالية في اوروبا وتنمو الا مؤخرا. وقد ساعد على ازدهارها تجارة المسافات الطويلة مع اسيا والعالم العربي بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر. فقد انشأ التجار مؤسسات تعاونية نتج عنها تقاسم المخاطر بشكل اكبر مما شجع على تراكم الثروة. هذا التطور قاد في رأي كوكا الى «تمكين التجار من تكوين مؤسسات ذات شخصية قانونية خاصة بهم». ثم تلا ذلك ظهور اسواق رأس المال ثم المصارف التي اصبحت ثرواتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بظهور الدول الحديثة التي وجدت نفسها بحاجة لجهة تدير عنها ديونها. هذا التحالف بين رأسمالية التجار والدول الناشئة ازدهر في عصر الاستعمار. فقد تضافر التجار ورجال الاعمال والغزاة المستعمرون مع الدعم القوي الذي يجدونه من الدول الكبرى دفعا قويا لتوسع الاستعمار الاوروبي. وكان اخطر ما في هذا التوسع مثلث التجارة الذي كان التجار الاوروبيون يقومون من خلاله بنقل السلع المصنعة الى افريقيا واستبدالها بالرقيق ثم استبدال اولئك الرقيق في العالم الجديد مقابل السكر والقطن الذي يعودون به لاوروبا. هذه العملية لعبت دورا فعالا في تعميق وجود الرأسمالية في اوروبا اكثر مما في الشرق الاوسط والصين. تعاظم حجم الاستثمار الذي تحتاجه مثل هذه المشاريع ساعد في ظهور ما اصبح يعرف في ما بعد بشركات المساهمة وبداية ظهور ما يسميه مؤرخو الاقتصاد بالرأسمالية المالية وافتتحت البورصات اول ما عرفت في انتويرب عام 1531 ثم في امستردام عام 1611م. معظم الثروات التي حققها الرأسماليون الاوروبيون في ذلك الوقت جاءت من تلك الانشطة غير الليبرالية. وهذا ما يراه كوكا في قوله «الرأسمالية.. تشتمل على القليل من الادوات المقاومة للاساليب غير الانسانية». ومع ذلك استطاعت على المدى الطويل، ان تضع الاسس التي قامت عليها الديمقراطية. لأن الثروة التي ولَّدتْها والامكانيات التي توافرت مع نشأة مؤسساتها الجديدة اربكت عمل النقابات وساعدت على توسع المدن وسمحت للثورة الصناعية في القرن التاسع عشر لتتطور الى رأسمالية إدارية في القرن العشرين. الأمْوَلَة.. وفشل الحكومات يفهم من سرد كوكا ان كل مرحلة من مراحل الرأسمالية تمهد الطريق للتي تليها عن طريق النمو الطبيعي. فالرأسمالية ببساطة تسير في رأيه الى الامام تصاعديا على الاقل منذ ان الغى الاصلاحيون الرق والاستعمار. لكن شيئا ما حدث ابتداء من عام 1980 بطريقة خاطئة. صارت الشركات تجني معظم ارباحها من القطاع المالي وليس من الاستثمارات الحقيقية. وهي عملية يسميها الاقتصاديون الأَمْوَلَة هذه العملية اضفت على حد قوله نوعية جديدة على النظام الرأسمالي. فالتمويل الحديث مقارنا بالقديم يعتبر شكلا منتجا من اشكال التمويل. وقد اثار دهشة كوكا. فهو يبدو بشكل رئيس انه يتكون من صناديق تحوط غير منتجة تتغول على الشركات المنتجة. لكنها لا تقدم اي مساهمة للانتاج في الاقتصاد العريض. وهذا جعله يصر على ان الحكومات فشلت منذ ثمانينيات القرن الماضي في ممارسة كوابحها الذاتية. واصبحت الشعوب تعيش خارج سيطرتها. وكانت النتيجة تعاظم الدين العام والخاص في الدول المتقدمة مما شكل مصدرا دائما لاثارة عدم الاستقرار بالنسبة للرأسمالية. لكن هذا النقد اللاذع لاساليب التمويل المعاصر يتزامن جنبا الى جنب مع المديح في بقية اجزاء الكتاب. فبالنسبة لكوكا يسير النظام «الرأسمالي» حاليا على ما يرام الى ان يتعرض هذا التمويل المعاصر للعطب. وهو يصر على ان توظيف الامولة يشكل اختراقا لمسيرة تطور الرأسمالية. لكنه فشل في توضيح مصدر هذه الامولة ومن اين جاءت. اذا كانت لم تخرج مباشرة من اشكال الراسمالية القديمة. وعلى اية حال فان التمويل المعاصر الذي ينتقده كوكا لا يختلف كثيرا عن سابقه التمويل المنتج الذي يشيد به. فالممولون الذين اوقعوا المانيا عام 2007 في ورطة بسبب تعريض انفسهم لقروض الرهن العقاري الامريكي الثانوي لم يكونوا صناديق تحوط ولكنها بنوك تنمية المانية تقليدية. ويؤدي ذلك دور احد اكبر المتاجرين في المشتقات التجارية في ذلك الوقت الذي حدثت فيه الازمة بنك دويتشيه الالماني الذي يصعب تصنيفه على انه مؤسسة تمويل جديدة على الساحة المالية. وباختصار فان فكرة ان تكون الامولة تحريفا للرأسمالية قد لا تبدو فكرة مرحة لكوكا لكنها يمكن ان تعتبر المرحلة الثانية في مسيرة تطورها. شراء الوقت عالم الاجتماع الالماني فولفغانغ استريك يبدو هو الاخر أنه يرى في الرأسمالية الحديثة رأسمالية معيبة. لكنه يعتبر في كتابه «شراء الوقت Buying Time» ان محنتها الحالية ليست حالة شاذة. وانما هي نتيجة مباشرة لتفكك بيت الزوجية الذي تم بين الرأسمالية والديمقراطية في اعقاب الحرب العالمية الثانية.