مع إعلان الميزانية العامة للعام 2016، برزت جملة معطيات جديدة، منها سيطرة روح التحدي لتحقيق تحول هيكلي، اتضح ذلك من بيان وزارة المالية، الذي أشار إلى برنامج متكامل مكون من 14 نقطة، كل منها تمثل تحدياً قائماً بذاته. ومع اعلان الميزانية، اتضح كذلك أن بوسع الخزانة العامة رفع الإيرادات غير النفطية، فقد ارتفعت في العام 2015 بما يقارب 28 بالمائة نسبة للعام 2014، والنقطة الثالثة، وضع مخصص لاستقرار إيرادات الخزانة في حال انهيار أسعار النفط أو حدوث طوارئ يستوجب الانفاق عليها. أما القطاع الخاص، فينظر من زاوية مقابلة للربحية ونمو قيمة استثماراته. وبعد اعلان «الرؤية 2030»، وبعد ذلك الإعلان عن «برنامج التحول الوطني» أصبحنا وجهاً لوجه أمام إعادة رسم دور القطاع الخاص. ودور القطاع الخاص محوري، فهو يمثل مخرجاً حقيقياً من مضائق النفط والريع. فماذا إن مكثت إيرادات النفط منخفضة، أو متذبذبة كما شاهدنا خلال ما انقضى من أشهر هذا العام 2016؟ حالياً، نعايش وضعاً صعباً مع الإيرادات لكنه ليس جديداً. الحديث عن انخفاض إيرادات النفط في أحلك الظروف وأصعب الأوقات، حديث مكرور ومعروف، فقد عايشنا التأرجحات الممجوجة لسوق النفط مرارات ومرات. وبالتأكيد فمن أعربَ عن قلقه من تراجع أسعار النفط خلال النصف الثاني من العام المنصرم (2014) عندما فقد نحو نصف قيمته، فتخوفه الآن من استمرار هبوط أسعار النفط مجدداً خلال العام 2016، متأثرة بمستجدات ذات صلة بسوق النفط والأوضاع الإقليمية وبالاقتصاد العالمي بصورة عامة. ومع عودة قصور الإيرادات عن تغطية المصروفات يعود سيناريو اقتصادي، لا نخرجهُ من خِبائهِ إلا عند الاضطرار! يأخذنا ذلك لأجواء بداية الألفية، أي قبل نحو 16 عاماً، عندما احتدم النقاش عن أهمية الخصخصة؛ توسيعاً لدور القطاع الخاص، وتحقيقاً لتنويع مصادر الخزانة العامة. وتمخض ذلك عن تحديد مشاريع للخصخصة أُعلن عنها رسمياً في نوفمبر 2002، وشملت مشاريع تؤدي لخصخصة عشرين قطاعا اقتصاديا، وذلك في مسعى لمعالجة العجز الذي كانت تعاني منه ميزانية الدولة آنئذ. وتضمنت تلك المشاريع خصخصة المرافق والخدمات العامة بما فيها الخدمات الصحية والاجتماعية، كما ضمت بيع أسهم شركات حكومية كشركة الكهرباء السعودية. وشملت أيضا فتح مجال الاتصالات وتحلية المياه والخدمات الجوية وإنشاء الطرق وتكرير النفط أمام القطاع الخاص، على أن تحدد مشاركة القطاع الخاص، وحجم تلك المشاركة وتوقيتها استناداً لاستراتيجية الخصخصة، التي صدرت عن المجلس الاقتصادي الأعلى في يونيو من العام نفسه (2002). وقد وضعت الاستراتيجية أسسا لإجراءات الخصخصة، وتعيين القطاعات التي ستعرض للبيع للقطاع الخاص السعودي والمستثمرين الأجانب، ووضع جدول زمني لنقل بعض الخدمات إلى مشاريع تجارية خاصة. وكانت الرؤية وقتها (العام 2002) ان العائدات التي ستُجنى من صفقات الخصخصة ستستخدم في تسديد ديون المملكة الداخلية التي كانت تزيد آنئذ عن 600 مليار ريال. وتجدر الإشارة أن الاستراتيجية كانت تنفذ تباعاً، ففي نهاية ذلك العام طُرحت 30 بالمائة من ملكية الحكومة في شركة الاتصالات السعودية للاكتتاب العام. الآن، وبعد مرور نحو عقد ونصف على إقرار استراتيجية الخصخصة، ومعايشة تراجع إيرادات النفط وتصاعد النفقات، فما هي الخيارات المتاحة لتجنيب اقتصادنا الوطني الآثار «الانسحابية» لتقلص إيرادات النفط، ولتجنبنا كذلك العودة لتصاعد الدَين العام نسبة للناتج المحلي الإجمالي، إلا في أضيق الحدود؟ بعد إعلان الميزانية للعام 2016 بساعات قليلة تجدد الحديث حول الخصخصة، وأن الحكومة تدرس فرصاً متعددة، سيعلن عنها خلال العام. بعد ذلك بفترة وجيزة أعلنت هيئة الطيران المدني عن برنامج لطرح مطاراتها ال 27 للخصخصة، وأن البداية ستكون بمطار الملك خالد الدولي، خلال الربع الأول من العام الحالي (2016). لكن هذا العام شهد الإعلان عن «الرؤية 2030» وتمثل الأهداف بعيدة المدى، كما أعلن عن «برنامج التحول الوطني» وهو تحول يرتكز إلى رفع كفاءة إنفاق المال العام والاستفادة من مقدرات القطاع الخاص محلياً وعالمياً. يدرك الجميع أن الخصخصة ليست حلاً سحرياً، بل خيار استراتيجي لا فكاك منه. لكن هل نفتح صفحة جديدة لدور القطاع الخاص، ونبدأ من «أول السطر»؟ لتصبح العلاقة علاقة شراكة؟ أم تستمر العلاقة علاقة «تزويد وتوريد»؟ لا غنى عن دور للقطاع الخاص، فشأن النفط وإيراداته التذبذب، وأن اقتصادنا كابد الكثير جراء «شقلبات» الإيرادات النفطية، تستوجب التحوط والتحييد حتى لا تؤثر سلباً على تطلعات التنمية والنمو، ولاسيما أن جهد التنمية المتوازنة الشاملة لا يحتمل التباطؤ، وأن استيعاب المزيد من الشباب السعودي في سوق العمل ولجم البطالة يحتاج لخلق وظائف، والوظائف يولدها اقتصاد ينمو دونما تباطؤ، ووقود النمو هو التدفق المتواصل للاستثمارات كذلك دونما تباطؤ. وهكذا، نجد أن جهد تنويع اقتصادنا والتخفيف من وطأة النفط عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات، بحاجة مستمرة أن تتحرك للأمام سواء ارتفع سعر النفط أم انخفض. وفي المحصلة فهذا يعني: أهمية فَصل مسار الخصخصة عن مسار «الحاجة للسيولة»، واحتضان الخصخصة باعتبارها تحوطاً ضد تَفرّد النفط بمقدرات المالية العامة، وسياجاً واقياً للتنمية والنمو، وأن لتحقيقِ ذلك متطلبات هيكلية تعنى ببيئة الاستثمار وتنافسيتها، وأننا بحاجة لوضع ذلك في وثيقة ثالثة «برنامج تنافسية الاقتصاد السعودي»، فكلمة السر لجذب القطاع الخاص هي «التنافسية»! بالقطع، لا يطمح أحد للعودة لمراكمة دين عام يوازي -في قيمته- الناتج المحلي الإجمالي للبلاد؛ ديون وسداد ديون والمبالغ المترتبة عليها لتنافس بناء المدارس والمستشفيات. كما أن لا أحد يطمح للعودة مرة أخرى للتوقف العملي لبرنامج استكمال وتحديث البنية التحتية، فذلك التوقف في الثمانينيات والتسعينيات جعلنا نستأجر آلاف المدارس ونعاني من نقص في جوانب عدة منها نقص في عدد الأسرة وقصور في الصرف الصحي، على سبيل المثال لا الحصر. إن ما حققته المملكة خلال العشر السنوات الماضية من إنفاق رأسمالي ضخم توجه للبنية التحتية ولزيادة السعة الاقتصادية، أدى لرفع نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي من 18 بالمائة إلى نحو 28 بالمائة، مما أدى لتواصل النمو دونما انقطاع خلال تلك الفترة، رغم ما مر بها من أحداث اقتصادية عالمية عاتية، ليس أقلها الأزمة المالية العالمية، التي تزامنت بكساد شامل وانهيار لأسعار النفط. هل نستطيع الاستمرار بتحمل عجز قدره 326 مليار ريال؟ عند الاكتفاء بالعموميات نقول: الحل تنمية الإيرادات غير النفطية، والحد من الهدر، والسحب من الاحتياطي، والاقتراض محلياً وحتى خارجياً. لكننا ندرك كذلك أن لا بد من السداد، كما أنه لا بد من تجنب السحب من الاحتياطي قدر المستطاع لارتباط ذلك بمؤشرات الاقتصاد السعودي اجمالاً. كما أن الاقتراض ليس «بلا سقف»، فقدرة البنوك المحلية على الإقراض محدودة، وليس خياراً الانطلاق للاقتراض الخارجي إلا في حدود مقننة، وأخذاً في الاعتبار جملة عوامل اقتصادية وسياسية، وتقليدياً تتجنب المملكة الاقتراض الخارجي، ففي الثمانينيات اتخذت قراراً بأن تغطي عجز الميزانية عبر الاقتراض المحلي. وهكذا نجد أننا عملياً أمام خيار يمثل في حد ذاته تحدياً ضخماً: خفض الانفاق من جهة وتنمية الإيرادات غير النفطية في آنٍ معاً. وحتى يتحقق ذلك الخَيَار، فعلينا ترقية مساهمة القطاع الخاص لتصبح مشاركة جوهرية ومؤثرة في كل من شقي خفض الانفاق وتنمية الإيرادات، لكن يبدو أننا نَشخُص أمام لوحة رُسِمَتّ بقلم رصاص، وما فتئت تنتظر أن: تُحَبرّ، وتُلَونَ، وتوضع في إطار «الرؤية 2030».