في الماضي كان المدرس يدوّن كل صباح على السبورة حكمة اليوم. وهي غالبا ما تكون على شاكلة «من جَدّ وَجَد، ومن زرع حصد». اليوم تهطل علينا زخات من الحكمة بشكل يومي، بعد أن كثر الحكماء على الشبكة العنكبوتية. وما عاد مستغربا أن نَتلقَّى أقوالا وأمثالا ومواعظ تتعلق بمعنى الحياة وفن العيش من مراهق اعتاد أن يملأ طرقات الحارة «تفحيطا» وفوضى، وما علينا سوى أن ننهل من ينابيع حكمته جَثْواً على الركب، فنحن في حضرة فيلسوف عصره وسقراط زمانه. الفرق بين هذا الحكيم الصغير وسقراط أن هذا الأخير لم يمارس «تفحيطا» فكريا، وإن كان خصومه قد ألصقوا به تهمة «التفحيط» الفكري وإفساد شباب أثينا، فجرعوه السم. والفرق الثاني بينهما أن أقوال حكيمنا الصغير تناقض أفعاله. لكنّ تلك الازدواجية ليست حكرا على ذلك المراهق، بعد أن صار بمقدور أي شخص أن يحتل موقعا على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يحصل على ترخيص يفتح بموجبه دكانا لتسويق الآراء والحكم، والخوض في قضايا السياسة وشؤون الدول، واختلافات المِلَلِ والنِّحَل، ونتائج النوم في العسل. ازدواجية عجيبة تجيز لأي طاووس أن يحاضر عن التواضع، ولأبي لمعة ونظيره أبي شلاخ البرمائي أن يتحدثا عن فضيلة الصدق، وأن يغرد بخيل موليير المحب للمال عن القناعة. وأن يَدَّعي الفطنة والكياسة أحد حمقى كتاب ابن الجوزي. قبل أيام نشر الأستاذ ميرزا الخويلدي مقالا في صحيفة الشرق الأوسط عن الشرائح الاجتماعية المختلفة التي احتلت الفضاء الإلكتروني، وعن «طوفان الكلام المنفلت»، وقد استشهد في هذا السياق برأي مؤلف (اسم الوردة)، الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبيرتو إيكو. يقول إيكو «إن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت لجحافل الأغبياء أن يتحدثوا وكأنهم علماء. وما كانوا يتحدثون سابقا إلا في الحانات من دون إلحاق أي ضرر بالمجتمع. كان هؤلاء يُرغَمون على الصمت فوراً حينئذ. في حين بات للواحد منهم الحق في التعبير كشخص حاز على جائزة نوبل. إنه غزو الاغبياء». غير أن «أغبياء» ما قبل الطفرة الرقمية كانوا أقل ضررا من نظرائهم في الوقت الراهن. فلم يكن لهم ذلك التأثير الذي نشهده هذه الأيام، والمتمثل في إشاعة الكراهية وإثارة الفتن. من حق أدعياء الحكمة أن يوزعوا الحكم والوصايا يمينا وشمالا، لكن من حقنا أيضا أن نطرح هذا السؤال: ما دام الجميع قد تحولوا إلى فلاسفة وحكماء، فلماذا لا نجد أثرا لتلك الحكمة على حياتنا؟ ولماذا لا تختفي تلك السلبيات التي نشاهدها جهارا نهارا؟ ولماذا تسير الأقوال مُشَرّقة، وتسير الأفعال مُغَرّبة. حيث يصدق على حكيم الشبكة العنكبوتية المثل القائل: «أسمع كلامك أصدقك، أشوف فِعالك أستغرب». أو قول الشاعر: «ما أقبحَ التزهيدَ من واعظٍ/ يزهّدُ الناسَ ولا يزهدُ»؟ لا يوجد سوى تفسير واحد، أو إجابة واحدة عن هذه الأسئلة هي أننا نقول ما لا نفعل. نقيم الدنيا دفاعا عن الوصايا التي لقنونا إياها منذ الصغر، ونخون تلك الوصايا في تعاملنا اليومي دون أن يرف لنا جفن. إنها ازدواجية تحاكي منطق الواقع. لنتأمل، على سبيل المثال لا الحصر، الحكمة التي كتبها مدرسنا على السبورة: «من جَدَّ وَجَد، ومن زرع حصد» وسنجد أن منطق الواقع مختلف. لأنك قد تزرع قمحاً وتحصد قَرَعاً (كما يقول شاعر شعبي مصريِ) وقد لا تحصد شيئا على الإطلاق. أرأيت كيف تساهم الفجوة بين المثال والواقع في تكريس تلك الازدواجية؟