فيما يتعلق بالفلسفة تطرح الأسئلة الممكنة التالية: ما هي الفلسفة؟ ما هو التفلسف؟ من هو الفيلسوف؟. السؤال الأخير ليس هو السؤال الحقيقي. فإذا أجبت وقلت إن الفيلسوف هو منشئ النص الفلسفي على غرار أن الأديب هو مبدع النص الأدبي، يظل السؤال الأهم: وما هو النص الفلسفي؟ مع هذا السؤال يتم توجيه الفكر وجهة صحيحة. أما التوجه نحو (من هو الفيلسوف) فالسؤال سيتعلق بالشخص وليس بالفن ذاته أو النص. واتجاه الفكر نحو الشخص مألوف وسائغ لدى القدماء الذين كانوا يعرفون الفلسفة بالفيلسوف وليس العكس. فما كان سقراط يقوله كان فلسفة حتى ولو نظم شعرا. من هنا ظهرت الفكرة الأسطورية التي تجعل الفيلسوف أشبه بالكاهن القديم الرائي الذي يتلقى وحيا أو شيئا شبيها به.. وبالفعل فقد ورد أن سقراط تلقى نبوءة أولى من معبد دلفي تفيد بأنه أحكم الأثينيين. وكان يغشاه بعض الأوقات شيء من ذهول ووجوم ما أن يفيق منه حتى يفوه بكلام ليس ككلام عامة الناس. وكان ديوجينوس مثالا آخر على الحكيم ذي الأسرار وكان يحكى أنه يسير بمصباحه في وضح النهار فإذا سئل عن ذلك قال إني أبحث عن الإنسان.. وكان يعيش زاهدا كأقسى ما يأخذ المرء على نفسه من زهد؛ حيث كان يعيش في ثياب خلقه وينام في برميل وقيل إن الإسكندر الأكبر جاءه وقال: ما تطلب مني أيها الفيلسوف؟ فأجاب: تنح قليلا كيلا تحجب عني ضوء الشمس. وهذه العبارة يمكن تأويلها على أن الإسكندر بسبب طغيانه كان يحجب نور الحق. وقد كتب أبو بكر الرازي رسالة شهيرة هي (السيرة الفلسفية) وقد عرض فيها لسيرة إمامهم سقراط (كما يسميه) وأن الفيلسوف يجب ألا يغشى الملوك وألا يأكل اللحم ولا يبني ولا يلبس فاخر الثياب ولا ينسل ولا يشرب خمرا ولا يأكل لحما ونحوها من قواعد صارمة.. والهدف من ذلك كله أن الحكيم لا يتلقى نور الحقيقة مادام خاضعا للشهوات والملذات. هذه الصورة الرومانسية للفيلسوف تغيرت اليوم بشكل جذري ولم يعد الفيلسوف ذلك الحكيم السقراطي أو الرازوي بل هو مؤلف محترف وعالم منهجي كأي مؤلف وأي عالم. والهدف لم يعد تلقي الحكمة بل إنشاؤها إنشاء والحكمة لم تعد نورا إلهيا أو وحيا علويا بل هي معرفة بشرية قائمة على المناهج المبتكرة من قبل الناس. وصار النقاد ومؤرخو الفكر ينظرون في الفيلسوف إلى نصه وليس إلى «سيرته».. وقد يكون الفيلسوف ذا سيرة سيئة أو مشبوهة ولكن هذا لا يلحق الضرر بنصه أو إبداعه. ففرانسيس بيكون كان خائنا لعهد الصداقة (حسب روايات بعض المؤرخين) وابن سينا هلك بسبب إسرافه في الشراب والنكاح وروسو ألقى بأولاده في الملجأ ولاينتز كان انتهازيا وأما لويس ألثوسير فقد أصيب في عقله فقتل امرأته. وهكذا فإن السيرة الفلسفية لا علاقة لها اليوم بالنص الفلسفي.. وفي المقال القادم سأتناول بالتفصيل ملامح النص الفلسفي وتقنياته وشروط إنتاجه.