حين شهدت التجارة العالمية تباطؤا في معدلات النمو بعد الازمة المالية، استطاع قطاع النقل البحري الاستفادة من هبوط اسعار النفط لرفع اداء هامش الربحية لذلك القطاع. ولكن لم يتسن لقطاع النقل البحري ان يلتقط انفاسه منذ ان هبطت اسعار النفط حتى بدأ يواجه مرحلة جديدة قد تؤثر على الاداء الايجابي الذي حققه في الخمس السنوات الاخيرة. والمسألة هنا ليست ببساطة معادلة لحساب نمو حجم نقل البضائع بسبب عدد السفن الجديدة التي تنافس في اسواق النقل أو مقارنتها بعدد السفن التي تخرج من الخدمة نتيجة انخفاض كفاءتها التشغيلية او ارتفاع كلفة صيانتها، بل تتعلق بمدى تأثر حيوية قطاع النقل البحري عند تدخل بعض التشريعات البيئية في ميزان العرض والطلب والذي عادة ما يسبب اضطرابا مؤقتا لحرية وديناميكية الاسواق الدولية. وبالرغم من ان 90 بالمائة من حجم التجارة العالمية يمر من خلال قطاع النقل البحري حسب بيانات الغرفة الدولية التجارية للشحن البحري، إلا ان معايير بيئية جديدة اكثر صرامة قد تشكل تحديا لنمو قطاع النقل البحري في السنوات الخمس القادمة على الاقل. ويعتبر الشحن البحري مسؤولا عن نسبة كبيرة من تلوث الهواء في البحار خصوصا انبعاثات اكسيد الكبريت من وقود السفن. وللحد من سلبية تلوث الهواء على الصحة العامة والبيئة بدأت دول امريكا الشمالية والاتحاد الاوروبي بتحديد مناطق للتحكم بنسبة تلوث اكسيد الكبريت في الهواء من خلال معايير تستهدف خفض معدل انبعاث الكبريت من سفن الشحن البحري. هذه المعايير البيئية جاءت تطبيقا للاتفاقية الدولية لمنع تلوث البحار من السفن والملحقات والبروتوكولات التابعة لها، والتي تم التوقيع عليها في مؤتمر المنظمة الدولية للملاحة عام 1973 وتعديلاتها عام 2005 والتي انضمت اليها 150 دولة بما فيها السعودية في شهر مايو من عام 2005. وما يهم في هذه الاتفاقية في الوقت الراهن هو الملحق السادس للاتفاقية والذي يتعلق بمنع تلوث الهواء من انبعاثات اكسيد الكبريت بسبب حركة سفن الشحن والتي تستخدم 250 مليون طن من الوقود سنويا. وقد اقرت لجنة حماية البيئة البحرية معايير صارمة لخفض انبعاثات اكسيد الكبريت وحددتها بخفض نسبة انبعاثه الى 3.5 بالمائة من اجمالي انبعاثات الوقود في يناير 2012. وتستهدف اللجنة في اجتماعها ال70 القادم في مقر المنظمة الدولية للملاحة في لندن والذي ينعقد في 24 اكتوبر من هذا العام خفض مستوى انبعاث اكسيد الكبريت الى نصف الواحد بالمائة في عام 2020. وقامت عدة شركات للنقل البحري بمطالبة لجنة حماية البيئة البحرية بالتأكد من وفرة وقود للسفن تنطبق عليه المعايير الجديدة في عام 2020، حيث ان ذلك ضروري لمعرفة الخيارات المتاحة لتلك الشركات عند ظهور نقص في امدادات وقود السفن. كما طالبت الشركات باستعجال دراسة اثار تلك المعايير الصارمة على حيوية قطاع النقل البحري وقدرتها على تحمل سيناريو ارتفاع اسعار الوقود عند ادخال تحسينات بيئية عليه، بالاضافة الى مدى قدرة جهات تنفيذية على إلزام السفن بتطبيق المعايير البيئية الجديدة. وتجاوبت اللجنة مع مطالب شركات قطاع النقل البحري، حيث سترتكز اللجنة في قرارها في اجتماعها القادم على نتيجة الدراسة التي قامت بها مجموعة سي ديلفت الهولندية الاستشارية، والتي خلصت نتائجها الى عدم وجود ما يمنع من تطبيق معايير بيئية اكثر صرامة على قطاع النقل البحري. وأوضحت الدراسة ان المنافع من تطبيق المعايير البيئية الجديدة على منطقة اليورو مبدئيا تتجاوز الكلفة المتوقعة على قطاع النقل البحري بنحو ثلاثة اضعاف وذلك نتيجة توقعات بأن تكون الكلفة الاضافية على قطاع النقل البحري في منطقة اليورو لا تتجاوز 2.3 مليار يورو مقابل منافع بيئية تتراوح ما بين 4.4 مليار الى 8 مليارات يورو بناء على احتساب قيمة كلفة انبعاث الكبريت ب8 يورو لكل كيلوغرام. ومن تلك المنافع خفض معدلات حموضة التربة والمياه نتيجة ارتفاع معدلات الكبريت والتي لها تبعات على الصحة العامة خصوصا مناطق الموانئ ومسارات السفن. وتطرقت الدراسة الى ان خفض معدل انبعاث الكبريت في السابق لم يتزامن مع اغلاق اي منشأة شحن بحرية ولم يطرأ اي تغير في حصص الشحن البحري مقابل حصص النقل البري في سوق الشحن العالمي. لكن الدراسة لم تتطرق الى اثر تطبيق المعايير البيئية الجديدة على هامش ربحية شركات النقل البحري. ومن الممكن أن يتغير كل ما ورد من استنتاج ايجابي في الدراسة عند ارتفاع اسعار النفط، حيث حذرت الدراسة من الحاجة للمزيد من البحث اثر ارتفاع اسعار النفط على قطاع النقل البحري خصوصا ان قدرة النقل البحري على امتصاص صدمة الاسعار محدودة بالرغم من ارتفاع نسبة حجم البضائع لكل طن من الوقود مقارنة بالنقل البري. وأوضحت سي ديلفت الاستشارية ان المصافي النفطية لديها طاقة تكريرية كافية لتوفير وقود السفن الذي يحوي النسبة المنخفضة المستهدفة من اكسيد الكبريت. وبالرغم من مهنية الدراسة المكونة من 45 صفحة إلا ان هنالك اعتقادا بأن الدراسة واجهت عقبات تتعلق بتحفظ شركات النفط عن الافصاح عن بيانات المبيعات لانواع معينة من الوقود لأسباب ترتبط بطريقة تحديد اسعار تلك المنتجات، مما قد يوجد تباينا بين نتيجة الدراسة وبين الحجم الفعلي لامدادات وقود السفن حيث لم تقدم الدراسة اي ارقام عن كميات الانتاج الحالية لوقود السفن الذي يتماشى مع المعايير المطبقة عام 2020. ولمعرفة مكونات الطاقة التكريرية في العالم يجب الاشارة الى ان النفط الخفيف يمثل 20 بالمائة من الإنتاج العالمي من النفط فقط، ويشكل الطلب عليه نسبة اكبر من النفوط الاخرى لقدرة النفط الخفيف على تحقيق معدلات تحويل اكبر للمنتجات البترولية كالبنزين ووقود الطائرات مقارنة بالنفط المتوسط والثقيل. ولهذا تبادر الصناعات النفطية لتطوير منشآتها لاستيعاب النفط الثقيل وهذا ما تم ملاحظته مؤخرا من استثمار شركات النفط في وحدات التكسير الهيدروجيني والتحفيزي في المشاريع الجديدة. ولذلك سيكون الاستثمار في وحدات تقنية عالية الكفاءة السبب الرئيسي في تحديد قدرة المصافي على التجاوب مع المعايير البيئية الجديدة. وبالتالي يتضح ان متغير الطاقة التكريرية سيلعب دورا اكبر من متغير اسعار النفط في تحديد اسعار وقود السفن. وقد اشار تقرير اوبك السنوي الاخير الى ان كمية مخلفات النفط انخفضت عشرة بالمائة في الاعوام الماضية مقارنة بارتفاع كمية المقطرات المستخرجة بنحو سبعة بالمائة مما يدل على ان مصافي البترول بدأت في الاستعداد لسيناريو تطبيق المعايير البيئية الجديدة في 2020 نتيجة لتوقعات بارتفاع الطلب بشكل مفاجئ على المقطرات متوسطة الكثافة عند تطبيق معايير وقود السفن في 2020. والذي بدوره يشير الى احتمال انخفاض انتاج الوقود ذي النسبة المرتفعة من الكبريت بشكل مستمر. وبالرغم من ان اسعار وقود السفن لم ترتفع عندما تم خفض نسبة الكبريت في الوقود عام 2012 إلا ان ذلك كان بسبب استقرار اسعار النفط لمدة سنتين وبسبب هبوط اسعار النفط لاحقا بشكل كبير ساهم في التخفيف من فرق الاسعار بين وقود السفن التقليدي المستخلص من مخلفات النفط وبين وقود السفن المستخلص من المقطرات متوسطة الكثافة. ولذلك إذا شهدت اسعار النفط ارتفاعا فإن قدرة قطاع النقل البحري على التأقلم مع اسعار الوقود المرتفعة قد تكون ضعيفة خصوصا مع توقعات بارتفاع اسعار المقطرات متوسطة الكثافة بنحو 45 بالمائة اذا تزامن ذلك مع نسبة التزام عالية من قبل شركات النقل البحري بتطبيق معايير وقود السفن الجديدة. واثارت سي ديلفت الاستشارية التساؤل عن مدى قدرة الزام كل المناطق بتطبيق المعايير البيئية الجديدة خصوصا مناطق اعالي البحار، حيث ان نسبة الالتزام بتلك المعايير قد تكون غير مشجعة في البداية مما يغمر قطاع النقل البحري بالتنافسية غير المتساوية بين شركات النقل البحري التي قد تستمر في شراء وقود يحوي نسبة عالية من الكبريت لخفض التكاليف التشغيلية. ولذلك فإن أحد المتطلبات التي ترفع نسبة التزام السفن في اعالي البحار هو القيام بتركيب مجسات لقياس مستوى تلوث الهواء بالكبريت، حيث ان قياس التلوث عن طريق الطائرات ما زال يعطي نتائج متباينة تدل على نسبة خطأ كبيرة في قراءة البيانات. ومع ذلك، فإن غالبية سفن الشحن في اوروبا قادرة على امتصاص اثر تلك المعايير الصارمة بسبب تطبيق تشريعات اوروبية سبقت قرار لجنة حماية البيئة البحرية بعدة اعوام مما يجعل كفة الشركات الاوربية افضل من بقية شركات النقل البحري في العالم عند تطبيق المعايير البيئية الجديدة. ولا توجد خيارات لدى شركات النقل البحري سوى الرضوخ لاسعار وقود السفن التي سترتفع بعد ادخال تحسينات على نسبة الكبريت، مما يرسم توقعات بانخفاض هامش الربحية إذا تزامن ذلك مع منحنى تصاعدي لاسعار النفط. وقد طرح البعض خيار استخدام معدات تحكم لعزل الكبريت من انبعاثات المحركات في السفن إلا ان عدد السفن التي تبنت هذا الخيار ما زال قليلا بسبب ارتفاع كلفة هذه المعدات والتي ترتبط بقيام مصافي البترول بتوفير وقود السفن التقليدي من مخلفات النفط، حيث ان شراء تلك الاجهزة دون توفير مصافي البترول للوقود الذي يحوي نسبة عالية من الكبريت نسبيا يجعل تلك المعدات عبئا كبيرا على التكاليف التشغيلية لشركات النقل البحري واهدارا لاحتياطياتها النقدية. واتجهت بعض شركات النقل البحري لتبني خيار آخر وهو قبول عروض شراء سفن تعمل بوقود الغاز الطبيعي المسال عند التخطيط لتوسعة حجم اسطولها البحري أو عند استبدال السفن القديمة. ولكن ذلك لن يخفف من وطأة تطبيق معايير بيئية صارمة في 2020 نتيجة الحاجة لفترة زمنية طويلة قبل انتشار محطات الغاز الطبيعي المسال في العالم لتغذية السفن بوقود الغاز الطبيعي، حيث لا يتجاوز عدد السفن التي تعمل بمحركات الغاز الطبيعي نسبة الواحد بالمائة من حجم اسطول الشحن البحري في العالم. كما ان شركات الشحن البحري تتردد عند مقارنة حجم خزانات الغاز الطبيعي المسال بخزان الوقود التقليدي لانها تأخذ مساحة نسبية كان من الممكن تخصيصها للبضائع، بالاضافة الى ان محركات الوقود التقليدي اقل كلفة بشكل ملحوظ مقارنة بمحركات الغاز الطبيعي التي تشكل تكاليف صيانتها عبئا كبيرا بسبب تعقيد انظمة السلامة فيها. ومن الملاحظ من هذه التطورات ان التدخل التشريعي قد يضع قيودا على حيوية القطاع الاقتصادي المراد تنظيمه، ولذلك لا بد من دراسة العوامل المؤثرة على حيوية الاقتصاد قبل سن تلك المعايير البيئية على شكل قواعد ملزمة حتى يحافظ التشريع على دوره المعهود في حماية الظاهرة البيئية المراد تنظيمها دون المساس بحرية وحيوية القطاع الاقتصادي.