سئل أحد الصالحين عن اجتهاده في العبادة والذكر، فقال: «ومَن أَولَى منِّي في بذل الجهد في ذلك، وأنا أرجو أنْ ألحق بالأبرار» فما فات من الوقت في غير طاعة لا عوض له، لأن ما ذهب لا يرجع أبداً، كما قيل: «الوقت أنفس ما عُنيت بحفظه... وأراه أسهل ما عليك يضيعُ» ولأجل هذا المعنى بذل الصالحون مجهودهم في اغتنام الساعات، وقد قال الله تعالى: «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» قال الحسن البصري رضي الله عنه: «أدركت أقواماً كانوا على أنفاسهم وأوقاتهم أشدَّ حفظاً، وأحرص شفقة منكم على دنانيركم ودراهمكم» فإذا كان الواحدُ لا يُخرج قرشاً إلا في تحصيل منفعةٍ أو جلب فائدة فعليه أن لا يضيِّعُ نَفَساً من أنفاسه إلا في طاعةٍ وبِرّ. ومما يُحكى عن بعض العلماء أن تلميذَه طلب منه أن يُوظِّف عليه بعض الأوراد، فقال الأستاذ لتلميذه: «وهل أنا رسولٌ لأَفرض الواجبات! الفرائضُ معلومةٌ، والمعاصي مشهورةٌ، فكن للفرائض حافظاً وللمعاصي رافضاً»، ثم طلب الأستاذ من تلميذه أنْ يحفظ قلبَهُ من التَّعلُّق بشهوات الدنيا، وأن يبتعد عن حبِّ الشُّهرة والجاه، رضاً وقناعة بما قسم الله له، فإنْ نزل به ما يُرضيه، شهد محبَّة الله له وإحسانه إليه، فبهذا يحصل له فرحٌ بربه، وهذا هو الشكر، وإنْ نزل به ما يُسخطه، شهد جلال الله وقهرَه، فيحصل له توجُّهٌ إلى الله، أدباً معه وسكونا إليه وتسليماً لأمره ورضاً بما قدَّر وقضَى، وهذا هو الصبر، فيعيش المرء بين الشكر والصبر، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار، فيصبح ويمسي مستسلما لأمر الله، لعل الله أن ينظر إليه بعين الرحمة، ويلاحَظ أنَّه ربما يُفضى تذوُّقُ حلاوة الأُنس بالله والغنَى به إلى الوحشة مما سواه، فيأنس العبدُ بالعُزلة عن المجتمع، لأن الشأن فيمن هذا حالُه أنْ يستلذَّ بحلاوة التَّعبُّد، وربما انقطع في الفيافي والقفار، وهجر الديار والأوطان، سعادةً وأُنْساً بلذَّة قيام الليل وصيام النهار، وهذا حالٌ وقع لكثير من العبَّاد والزُّهاد، فلو سئل أحدهم عن سبب اختياره للعزلة وانقطاعه عن الناس، لقال إنه يريد أن يتذوَّق حلاوة المعرفة ويعيش حياة طيبة، ويُروى في ذلك أن رجلاً سأل أحد العبَّاد: ما أصبرَك على الوحدة! فقال العابد: «لستُ وحدي، أنا جليسُ الله تعالى، إذا شئتُ أن يناجيني قرأتُ كتابه، وإذا شئتُ أن أناجيه صلَّيتُ له» غير أن هذا الانعزال انشغالٌ بحظوظ النفس ولذائذها، أُنْساً بالتَّعبُّد، وسلامةً من وَحْشة الخلطة بالناس وهمومها، وهذا مخالِفٌ لشريعة الله، فالشريعةُ ندبت العبادَ إلى ما هو أكمل من ذلك، ندبتهم إلى الانشغال بقضاء حقوق الله، بامتثال أوامره وترك ما نهى عنه. والمتتبع لأحكام الشريعة يجدها تدور على الخلطة بالناس، فلم تُفرَض صلاة الجماعة والجمعة إلا لهذا المعنى، ويكفي في بيان أهمية الخلطة أنها تعاونٌ على البر والتقوى، وهذا التعاون لا يتأتَّى للإنسان إلا بمخالطته للناس، ثم إنَّ هذه المخالطة وما يصاحبها من النصح والإرشاد لا تخلو من منغِّصات، ولذلك كان الثواب فيها أعظم من ثواب التعبد، ففيها نَفْعٌ يتعدَّى للخلق، بخلاف التعبُّد فنَفْعُه خاصٌّ بالمتعبِّد. وقد ذكر العلماء أن من فوائد الخلطة إقامة الحقوق بعمارة الأرض، والصبر على التواصي بالحق الذي أرشدَتْ إليه سورة العصر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم» أي يغشاهم ليتعلم منهم خصال الخير، فيألف ويؤلف، بخلاف أهل النار، فالشأن فيهم العزلة، لا حبيب لهم ولا صديق: «فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» ولقد قال عليه الصلاة والسلام «الدِّين النصيحة» فهذا الأمر بالنصح يعني مخالطة الخَلق لنُصٌْحهم ليعملوا الخير والصواب، كالتوحيد، وكعموم الأحكام الفقهية، مع تَرْك الاختيار للمنصوح، وإلا فما معنى النصيحة لو كان المراد بالنصحِ القسْر والإكراه، ونقيض النُّصحِ هو الاستهزاءُ والسخرية، فقوام الاستهزاء تضييق الحريات، بإشاعة المناكر والمفاسد والاعتداء على حدود الآخرين، ففي الحديث الشريف «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقونه» فالاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال مُنافٍ لمقصود الخلطة، لأنه تَضييقٌ للخناق على الحريَّات.