مهندس ل «غابة البنادق»؟، لا غرابة، فقد يُفلح فيما عجز عنه الساسة، أولئك الذين أحالوا «ربيع ليبيا» إلى نموذج مبدع من "ديمقراطية البنادق"، حيث لا صوت يعلو على "فاصلة" هنا وهناك، يظنها أصحابها "قدم خير"، فإذا هي "قدم موت" و«غرق جديد». يدرك أن تشييد الدول وعمرانها ليس سهلاً، وأيضاً ليس مستحيلاً، حتى إن تأهبت البنادق وعلا أزيزها، فلا بد أن تصمت مجدداً لأجل ليبيا، الوطن الخارج -من صمته- على غاصبه، والباحث عن ذاته في خِصام لا خصومة فيه، فالخصم الحقيقي، قضى قبل سنوات خمس، وبات ماضيا منتهيا. ابن العائلة العريقة المهندس المعماري فايز مصطفى السراج، "رئيس المجلس الرئاسي الليبي" و"رئيس الحكومة التوافقية"، المولود في طرابلس 20 فبراير 1960، ابن العائلة العريقة والمحافظة، التي شكلت قِوام هويته، ليس الشخصية فقط، بل السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضاً. طفولة السراج نُسجت في كَنف أبيه، السياسيّ القوميّ، الذي أسهم في بناء دولة الاستقلال الوطني، التي نشأت في فورة المد القومي متأثرة بقاهرة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، في خمسينيات القرن المنصرم. والده هو عضو مجلس النواب الليبي، والوزير في عدة حكومات، خلال العهد الملكي السنوسي، الذي انتهى بثورة "الضباط الوحدويين الأحرار" بقيادة العقيد معمر القذافي عام 1969، وهي الثورة التي قضت على الدولة الدستورية في ليبيا، لينشأ بعدها "نموذج سياسي" لم يرقَ إلى مرتبة "النظام السياسي"، وليحكم البلاد على مدى 42 عاماً، حتى أزاحته ثورة "الربيع الليبي". تلقى السراج تعليمه في ليبيا، وحصل على بكالوريوس في العمارة والتخطيط العمراني عام 1982 من جامعة الفاتح (الآن جامعة طرابلس)، وماجستير في إدارة الأعمال سنة 1999. عائلة السراج، شأنها شأن غالبية العائلات الليبية، ابتعدت في عهد القذافي عن شؤون السياسية؛ لدرء ما قد يلحق بها من بطش، وهو ما أفسح المجال لابنها المهندس في أن يشق طريقه العملية بهدوء وصمت، بعيداً عن صخب المعارضات، التي اتخذت من دول المهجر مقراً لها. تدير عائلة السراج مجموعة كبيرة من الأعمال التجارية، منها مكتبة السراج في وسط طرابلس، التي كانت إحدى أشهر المكتبات في المدينة قبل أن يغلقها القذافي بعيد وصوله إلى الحكم ضمن حملة واسعة لمصادرة أملاك الليبيين، وتمتلك العائلة أراضي شاسعة في ضاحية طرابلس الغربية بمنطقة لا تزال تعرف - حتى الآن - باسم منطقة السراج. زوجة السراج كانت ذات يوم زميلته في الجامعة، وهي ابنة عائلة عريقة ونافذة يعود مسقط رأسها إلى مصراتة، وله منها ثلاث بنات من غير الذكور. استهل السراج حياته المهنية كمهندس في إدارة المشروعات بصندوق الضمان الاجتماعي، ومستشار هندسي لدى العديد من اللجان المتخصصة بدراسة وتصميم المشروعات، وانتقل إلى القطاع الخاص ليؤسس مكتب "تريبوليس" للاستشارات الهندسية. بدايته السياسية لا يُحسب السراج على المُعارضات الليبية التقليدية، إذ لم ينتم إلى أي منها، فيما لا تتضمن سيرته أي أدوار سياسية تذكر قبل ثورة "ربيع ليبيا" (15 فبراير 2011)، التي تعتبر أذنت لمشواره السياسي بالانطلاق. عقب الإطاحة بالقذافي شغل السراج عضوية هيئة الحوار الوطني، التي سعت إلى جمع القوى المجتمعية الليبية المختلفة؛ لإجراء حوار وطني يُخرِج البلاد من الأزمة السياسية والأمنية التي حلت بها، وهي العضوية التي شرّعت للرجل أبواب السياسة، ليترشح إلى عضوية مجلس النواب عن مدينة طرابلس (دائرة حي الأندلس)، ويُصار إلى اختياره رئيساً ل "لجنة الإسكان والمرافق" وعضواً ل "لجنة الطاقة" النيابيتين. في هذه الأثناء، انتسب السراج إلى حزب التحالف القومي الوطني، الذي رشّحه لتولي وزارة المرافق والإسكان في حكومة أحمد معيتيق عقب ثاني انتخابات نيابية بعد الثورة (عام 2014)، وهو الترشيح الذي يكشف وجهاً من نهج الرجل سياسياً. السراج رفض تولي الوزارة، متذرعاً لرئيس الحكومة المكلف آنذاك أحمد معيتيق ب "طبيعة المناخ السياسي العام" و"غياب الاستقرار الأمني"، و"قصر عمر الوزارة المتوقع"، وهي تحديات ثلاثة ظهرت وجاهتها لاحقاً. ثمة سمات خاصة، تميّز السراج عن قيادات ليبيا الثورة، فالرجل صاحب الشارب الرمادي مستمع جيد، ومتحدث لبق، ولغته السياسية توافقية إلى حد بعيد، وتخلو تماماً من كلمات التهديد والوعيد، والتلويح بالقوة، فيما يمتلك عقلاً منظماً يجعل من أهدافه السياسة أنموذجاً عمراني البناء، فهي متدرجة وتقوم على أسس راسخة وأعمدة قوية، وصولاً إلى غايتها النهائية، وهي الصورة التي عكسها الرجل خلال عضويته في مجلس النواب. اتفاق الصخيرات ظل السراج على مسافة متساوية مع مختلف الفرقاء الليبيين، معتزلاً خصوصياتهم، ومبتعداً عن الانغماس في تفصيلاتهم، التي يعتبرها كل منهم محقة وصاحبة وجاهة، ما جنّبه خصومات سياسية أو دموية تعترض العديدين من ساسة ليبيا الجديدة، وحتى 17 ديسمبر 2015، يوم توقيع "اتفاق الصخيرات"، وتسمية ممثل الأمين العام للأمم المتحدة للسراج رئيساً للمجلس الرئاسي والحكومة التوافقية، لم يكن الرجل - في نظر مختلف الفرقاء - سياسياً منافساً أو من الصف الأول. "اتفاق الصخيرات"، الذي يهدف إلى إنهاء نزاع على السلطة قتل فيه الآلاف منذ صيف 2014 ويحظى برعاية ودعم عربي ودولي وأممي، أحدث تحولاً في مسيرة السراج، لكن الأهم من التحوّل هو إظهاره لآلية تفكير وعمل الرجل، الذي ظلّ كامناً إلى أن أرسى أركان ارتقائه السياسي، مستنداً إلى توافقات معقدة للغاية، يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي، فرئاسة حكومة التوافق في "غابة البنادق" تبدو بمثابة "حقل ألغام" متأهب عن بكرته للانفجار في أية لحظة. يدرك السراج، الذي حافظ على هدوئه رغم كل ما أثير حول الاتفاق وما ترتب عليه، أنه سيقود عملية سياسية في بلد يخلو من "ألف باء النظام"، ومخياله السياسي عاجز -حتى اللحظة- عن التعرّف إلى التنوع والاختلاف، والتمييز بينهما وبين "الصراع المسلح"، المستند إلى "ترسانات" من الأسلحة تسيطر عليها مجاميع مناطقية وأيديولوجية معقدة، احتفظت بجذوتها طوال عقود. لدى تعيين السراج رئيسا للمجلس الرئاسي ولحكومة التوافق، احتج العديد من الفاعلين السياسيين، خاصة أنه لأول مرة تتدخل الأممالمتحدة لاختيار رئيس، هذا فضلاً عن معارضتهم الشرسة للاتفاق، ومحاولة عرقلة تنفيذه بأية شكل، ما حدا بهم إلى حظر المجال الجوي؛ لإعاقة عودة الرجل إلى ليبيا، رغم أن الاتفاق احتاج 18 شهراً من المفاوضات المكوكية لحل الأزمة، وإنقاذ الدولة من الفشل. قيادة ليبيا كثيرون شككوا في قدرة السراج على قيادة البلاد، لكنه أفلح بهدوئه في تجاوز الأسلاك الشائكة، واستطاع الدخول إلى ليبيا، لتبدأ مرحلة تفكيك التربيطات بين المكونات الشرقية (في طبرق) من جهة، والغربية (في طرابلس) من جهة ثانية، وقد أنجز جزءاً مهماً منها دون إراقة دماء. الخطوات الأولى لصاحب الشارب الرمادي كانت عقلانية وموضوعية جداً، إذ حصلت حكومته دعم "البنك المركزي الليبي" و"المؤسسة الوطنية للنفط" و"الاتحاد الوطني لعمال ليبيا"، فضلاً عن بلديات 10 مدن ساحلية في الغرب، الأمر الذي يعني انتكاسة مبكرة للسلطة السياسية الموازية غير المعترف بها في طرابلس، التي ترفض التخلي عن الحكم. وسرعان ما اتخذ البنك المركزي، الداعم لحكومة السراج، قراراً بتجميد الحسابات المصرفية لجميع الوزارات في البلاد، ما يعني توقفها عن العمل، وعدم قدرتها على الإيفاء باحتياجات داعميها ولا القيام بدورها في خدمة الجمهور. خطوات السراج عمدت إلى الامساك بالمحفظة المالية للدولة، وبالتالي وقف شريان الحياة المغذي للفرقاء السياسيين، الأمر الذي أضعف مقاومتهم لحكومة التوافق سريعاً، ودفعهم إلى القبول بالأمر الواقع، والموافقة على حل حكومتهم، دون أن يعني هذا تجاوزه ل "جنرالات غابة البنادق". في الشرق، وتحديداً في برلمان طبرق، ثمة عقبات عديدة، لعل واحدة منها تمسك رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بقيادة الجنرال خليفة حفتر للجيش، وهو ما يتباين حياله موقف فرقاء طرابلس (في الغرب)، التي بالكاد تخلت حكومتها (غير المعترف بها) عن السلطة. رئيس مجلس النواب عقيلة صالح يعتبر مختلف الإجراءات التي اتخذها السراج، بعد وصوله إلى طرابلس، "باطلة"، فهي "ليست قانونية ويجب أن تسبقها الثقة النيابية"، لكنه يدرك أيضاً أن رئيس حكومة التوافق يحظى بدعم دولي لم يعد سراً بعد تحركاته ونجاحاته. الغرب أدار الانقسام الليبي بحرفية، ففي الوقت الذي يعترف فيه بمجلس النواب في طبرق، كان يرفض المؤسسات العاملة في طرابلس، ويعتبرها غير شرعية، وفيما بعد "اتفاق الصخيرات" بات يقيّم مختلف الأطراف بناء على استجابتها وتساوقها مع نتائج الاتفاق، واعتباره معياراً لدى الاتحاد الأوروبي، الذي قرر "منع دخول دول الاتحاد" و"تجميد الأرصدة البنكية في أوروبا" لكل من رئيس برلمان طرابلس النوري أبو سهمين، ورئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، ورئيس حكومة طرابلس خليفة غويل، وذلك ل "سلوكهم الذي يمنع تركيز حكومة الوحدة الوطنيّة"، الأمر الذي يجعل مختلف الأطراف دقيقين في التعامل مع السراج. عقبات المتوقع من حكومة السراج أن تحل محل الحكومتين المتنافستين، في الشرق والغرب، كخطوة أولى لتوحيد السلطة، ومن ثم توحيد السلاح، لتخوض المواجهة الأكبر مع الإرهاب، وتحديداً مع "تنظيم داعش"، الذي أرسى ولاية له تضم آلاف المقاتلين (يقدر عددهم ب6500 مقاتل بالحد الأدنى)، هذا فضلاً عن الميليشيات العابرة للوطنية الليبية وذات الأجندات الخاصة. بيد أن العقبات لا تزال تواجه توحيد السلطة في ليبيا، رغم الإضعاف المنظم لمختلف الأطراف في مقابل تقوية نفوذ ومكانة حكومة التوافق، فالأطراف السياسية والمسؤولون الحاليون لا يزالون يرفضون تركيبة الحكومة؛ ما يعطّل الانتقال السلس للسلطة، ويعيق ممارسة مهامها، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة توحيد السلام والاستعداد للمواجهة. هدوء السراج وإصغاؤه لمختلف الأطراف لا يعني اضطراره من ضعف، فلدى الرجل أوراق عديدة يمكنه اللعب بها، من بينها الدعم العربي والدولي، وأجندة محاربة "داعش"، فضلاً عن حاجة عموم الليبيين للخروج من المأزق الحالي، الذي يخيم عليه شبح الحرب الأهلية والتوقف شبه الكامل للخدمات الحكومية وانعدام الأمل بالمستقبل القريب. تقبل شعبي خطاب السراج يستند إلى كلمات مفتاحية، تلقى قبولاً لدى المواطن الليبي، هي: "لن تكون بعد اليوم حرب"، و"انتهى زمن الاستقطاب بين الإخوة"، و"لن استخدم القوة أو التلويح بها"، و"تعالوا نعمل فسيرى الله عملنا والمؤمنون"، و"لا إقصاء"، و"اللاجئون في الداخل والخارج"، و"الاقتصاد المنهار، وارتفاع الأسعار"، و"انهيار الأمن والأمان" و"أولوية المصالحة والحوار لوأد الفتن"، و"الإرهاب وخطر التطرف". تساءل الزعماء الليبيون كثيراً وعلناً عمن يكون السراج، فقد نظروا إليه من بوابة عدم انتمائه لأي من الفصائل العاملة، لكنهم أغفلوا حقيقة أن غالبية الليبيين ليسوا منتسبين إلى تلك الفصائل، وهؤلاء يشكلون الغالبية العظمى، التي باتت تدرك أن السراج قد يكون طوق النجاة. وكما تساءل هؤلاء عن الكيفية التي اعتلى فيها السراج هرم السلطة، وقالوا إنه "تسلل في غفلة منا"، فإن الرجل قد يدفعهم عما قريب إلى تساؤل جديد: كيف نجح؟.