كل مرة يقف الكاتب في مواجهة أمام كلماته، يختار بعناية ما يكتب منها وما يحتفظ به لنفسه أو لوقت آخر، وهذا حق لا ينكر للكاتب، فأحيانا لا يقل صمت الكاتب قوة عن كلماته، فإذا أجاد الكاتب استخدام صمته فإن القارئ المتمرس سيجيد الفهم. المؤسف أن كثيرا من الكتاب يظلم نفسه في سبيل جمهوره، ويظلم جمهوره معه بالمجاملات الملفقة؛ فلا هو التزم الصمت، ولا انتصر لآرائه المظلومة. الكاتب الحرباء، يخفي آراءه ويتلون في العلن بلون محيطه الجمهوري ملونا معه استقلاليته الفكرية ومصداقيته. وأقصد هنا بالجمهور: القراء، النقاد، الزملاء، المحررين والمتفرجين على الرصيف الجانبي. ولو أخذنا تويتر كساحة فكرية مصغرة لقياس علاقة الكاتب بالجمهور، سنجد أن الجمهور يغرد في 360 درجة. أغلب الجماهير متقلبة، تغرد من الصفر وتتقلب وتتغير في دورة كاملة لتعود للصفر؛ آراؤها مستعارة كاسمائها، تكثر الشتم وتتهم وتهاجم دون أي توجه ثابت، ومع ذلك، كثر من يوازن رأيه بميزان يقيس فيه عدد متابعيه، ويصطنع الرأي ليرضي جمهوره، فهدفه الأساس من المنبر الثقافي هو التأييد الحشدي لما يدعيه، وهذا الموضوع ليس حصرا على الكتاب، بل يشمل المفكريين والإعلاميين وأي شخص يقف ليتلو على الجمهور رسالة ما. بعض هؤلاء يحولون الساحة الإعلامية إلى مسرح لترديد آراء مصاغة للرضا الجمهوري، وما أن تغلق الستارة حتى يبدأوا في الحديث بصيغة مختلفة وآراء تناقض سابقتها، متغافلين واقع أن الجمهور يحتاج للحقيقة، وإن أغضبته، وأن الآراء الملتونة البراقة تبهت ويشحب لونها الحقيقي مع الوقت. اصطناع الرأي ليس أمرا صعبا، لكنها تقضي على مصداقيتك واحترامك لرأيك فلا تتوقع الاحترام الحقيقي من الجمهور لرأي مزيف يتغير بتغير الجمهور ورغبته. حتى قبل ثورة الجماهير الالكترونية، أي مفكر يخرج عن اطار جمهوره سيواجه بالهجوم العنيف، ولنسأل جاليليو. فالظلم الذي حل بجاليليو واتهمه بالهرطقة كان جراء الأفكار التي أغضبت جمهوره، فكان مخيرا بين أمرين: إما الصمت أو مواجهة جمهور غير مستعد للحقيقة، فما كان من جاليليو الا أن يقف وحيدا في مواجهة الجمهور الغاضب الذي كان يرشقه بالتهم دون توان. فإذا كان جاليليو قد ظلم من جمهوره، فدعنا نحن ككتاب نرفض فكرة إرضاء الجمهور، فإما أن نعطي رأينا حقه أو نلتزم الصمت حتى لا يظلم جاليليو مرتين.