لم تكد تنتشر «الإشاعة» حول قراره التوقف عن الكتابة حتى كذّبها سريعاً معلناً أنه يعمل الآن على إنهاء رواية جديدة ستكون رواية حبّ مثل بعض سابقاتها. ليس غابريال غارثيا ماركيز أول من يتراجع عن مثل هذا القرار - إذا كان بادر به أصلاً - فالكثيرون قبله أعلنوا اعتكافهم عن الكتابة ثم عادوا عنه نزولاً عند رغبات داخلية لا يمكنهم أن يفسروها بوضوح. فالحافز على الكتابة يظلّ غامضاً مهما سعى الكتّاب الى تفسيره نظرياً، وقد لا يخلو من نزعة غريزية تكمن في سريرة هؤلاء الأشخاص الذين لا يستطيعون أن يحيوا خارج الأوراق والحبر. لم يبالِ ماركيز بمرض السرطان الذي يعانيه منذ أعوام قليلة، ولعله وجد في الكتابة وسيلة لمواجهته وإن وهماً، فالكتابة فعل حياة حتى وأن كان الموت موضوعها في أحيان. وقد صرّح ماركيز لصحيفة «إلتيمبو» قائلاً إن الأمر الوحيد الذي يمكنه أن يؤكده هو أنّه يكتب، فقط يكتب. ونشرت صحيفة فرنسية قبل أيام، كاريكاتوراً لماركيز يقول فيه بسخرية ليست غريبة عنه: «أتوقف عن الكتابة؟ أيريدونني أن أقضي أيامي في قراءة «مئة عام من العزلة؟». يصعب فعلاً على كاتب مثل ماركيز أن يعتزل الكتابة، مهما تقدم به العمر ومهما اشتد عليه المرض. ولئن كان يدرك جيداً أن ما يكتبه ليس في حجم ما كتبه سابقاً، وأن روايته الأخيرة «ذاكرة غانياتي الحزينات» لا تضاهي أعماله السابقة، فهو سيظل ممسكاً بالقلم أو بالأحرى جالساً الى «الآلة» يمرّر عليها أصابعه، خالقاً كعادته عالماً طريفاً من الوقائع والشخصيات... فالكتابة لديه ليست عادة يومية فقط لا يقدر على الخروج عنها، بل حاجة ملحّة مثل الماء والهواء، ومن دونها لا يقدر على مواصلة الحياة ولو شبه مقعد أو منعزلاً. قال الكاتب الأرجنتيني بورخيس مرّة: «لا أستطيع أن أتوقف عن الكتابة. إنني لطالما أدركت أن قدري كان قدراً أدبياً، كقارئ وككاتب متهور أيضاً». بورخيس الذي أصابه العماء في منتصف العمر لم يستطع أن يعتزل الأدب، قراءة وإبداعاً، وآثر أن يقضي ما تبقى له من أعوام طوال، منصرفاً الى هاتين «الحرفتين» اللتين أجادهما تمام الإجادة، جاعلاً من القراءة فعلاً إبداعياً يوازي الكتابة نفسها. لو سألنا أي كاتب: «لماذا تكتب؟» هل يمكنه أن يجيب على هذا السؤال جواباً شافياً ونهائياً؟ حتماً لا. ومهما مضى بعض الكتّاب في الشرح والكلام النظري تظل أجوبتهم شبه ناقصة. فالكتابة أمر والكلام عنها أمر آخر. هذا سرّ من أسرار الكائن الذي يُسمّى الكاتب. سرّ يكمن في روحه مثل بقية الأسرار التي لا يمكن فهمها علمياً أو عقلانياً. الكتابة هي صنو الحلم والغريزة والحبّ والكراهية والحدس والموت... أمر لا يلمّ به إلا مَن يعيشه أو يكابده بالأحرى، ومهما حاول توضيحه يظل محاطاً بهالة من الغموض الذي يرقى الى غموض الكائن نفسه. يصرّ الشعراء والروائيون وسواهم على الكتابة حتى الرمق الأخير. يشعرون أنّ لديهم الكثير مما لم يقولوه، ويحسّون أن الزمن يمضي بسرعة وعليهم أن يسابقوه لئلا يغدر بهم. يكبونّ على الكتابة من غير هوادة وهمهم أن يجابهوا إيقاع الزمن وأن يسبقوه. وفي مثل تلك اللحظات لا ينتبهون الى أن «السباق» هنا ليس إلا ضرباً من العبث. لا أذكر من قال: ليس المهم متى نبدأ بل المهم متى ننتهي. وقد يمكن تحريف هذه الجملة حتى تصبح: ليس المهم كيف نبدأ بل المهم كيف ننتهي. النهاية فعلاً أشدّ صعوبة من أي بداية. يبلغ الشاعر أو الكاتب ذروة إبداعه ثم لا يلبث أن يتراجع ليصل في أحيان دركاً لا يليق به. لكنّه يصرّ على الكتابة حتى وإن انتهى مقلّداً نفسه أو مقلّداً مقلّديه، وهنا الطامة الكبرى. يعرف الكاتب متى يبدأ وكيف، لكنّه يتجاهل متى ينتهي وكيف. التوقف عن الكتابة موت أشد وطأة من الموت الحقيقي. هذا أمر يجب الاعتراف به. كم من مبدعين كبار دفعوا ثمن هذا الإصرار على الكتابة. بل كم من مبدعين أساءوا إلى أنفسهم والى تاريخهم نتيجة إصرارهم على الإبداع حتى وإن أصبح مجرّد تقليد أو محاكاة أو اجترار أو تكرار... أعلن الشاعر العراقي بلند الحيدري في الثمانينات اعتزاله الكتابة، وكان لقراره الجريء وقع طيّب في الوسط الأدبي، فهو كان ربما أول شاعر يقرر حينذاك الخلود الى الصمت، ويعترف أنّ لم يبق لديه ما يقول او يكتب. ولكن لم يمضِ عام أو أكثر حتى عاد، وبحماسة غير مألوفة. وراح يصدر الديوان تلو الديوان حتى بات ممكناً الكلام عن مرحلة ما قبل «القرار» ومرحلة ما بعده. ولم تلبث «قضية» بلند الحيدري أن أصبحت بمثابة المثل الذي يُضرب في هذا الصدد، ليس في سبيل السخرية بل «الحجة» ذات الدلالة البيّنة. ما من شاعر أو كاتب يجهل متى عليه أن يصمت، فالصمت يحين مثلما يحين أي أمر قدريّ، لكن هذا الشاعر أو الكاتب يعرف يقيناً أنه إذا صمت انتهى أو مات، فيما هو على قيد الحياة. الاعتزال صعب جداً وقاهر جداً وأليم... أن يعتزل المبدع «حرفة» لم يزاول سواها طوال حياته، حرفة التصق بها حتى أصبحت حافزه على الحياة، ومبرراً لوجوده... هذا ضرب من ضروب الموت حقاً. هكذا تظل الكتابة أجدى مهما فقدت من ألقها أو شحبت وهزلت. أتذكر هنا ما كان يقوله بعضهم ساخراً: توفّي الشاعر الفلاني قبل أعوام لكنّ خبر وفاته وصل الآن. فعلاً كم من شعراء أو كتّاب ماتوا قبل أن يوافيهم الموت الحقيقي، ماتوا أو بالأحرى «أماتوا» أنفسهم - لئلا أقول انتحروا - وهم على قيد الحياة، طامحين الى الخلود، خلود الحياة الذي ليس إلا وهماً بوهم. العبرة يمكن استخلاصها من بورخيس، هذا الكاتب الكبير، ومفادها أن الكاتب إذا لم يبق لديه ما يقول، يستطيع أن يصبح قارئاً، فالقراءة فعل إبداع مثلما الكتابة فعل ابداع.