استطاع الإرهاب أن يصل مرة أخرى إلى قلب أوروبا وأن يوجه ضربات موجعة إلى أهداف حيوية في مدينة بروكسل, المقر الرئيس لمعظم مؤسسات الاتحاد الأوروبي ورمز الوحدة الأوروبية. فقد تمكنت مجموعتان إرهابيتان تابعتان لتنظيم "داعش" من القيام بعدة عمليات متزامنة, حيث نجحت إحداها في اختراق المطار وتمكنت من القيام بتفجيرين كبيرين, بينما نجحت الأخرى في اختراق إحدى محطات المترو، وتمكنت من القيام بتفجير ثالث لا يقل ضخامة, ما أودى بحياة 34 شخصا وجرح ما لا يقل عن مائتين آخرين, كثيرون منهم في حالة حرجة. ما يلفت النظر في عمليات بروكسل الارهابية أنها كانت متوقعة إلى حد كبير ولم تنطو على اية مفاجآت. فقد سبق للتحقيقات المتعلقة بتفجيرات باريس, والمتواصلة منذ نوفمبر من العام الماضي, أن توصلت إلى أن بعض الإرهابيين الذين خططوا لهذه التفجيرات أو شاركوا في تنفيذها قدموا من بروكسل، وربما يكونون قد عادوا إليها واقاموا فيها من جديد. وقد اعترف بعضهم - عقب إلقاء القبض عليهم - بأنهم كانوا يخططون لتنفيذ عمليات إرهابية في بروكسل، فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن صلاح عبدالسلام - وهو الرأس المدبر لعمليات باريس - ألقي القبض عليه في بروكسل قبل أربع وعشرين ساعة فقط من وقوع التفجيرات الأخيرة, لتبين لنا جميعا أن بروكسل كانت مستهدفة، وأنها لم تتمكن - رغم ذلك - من إجهاض ما كان يدبر لها! وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن ما وقع في بروكسل كان كاشفا لحقائق عديدة, أهمها: 1- أن تنظيم "داعش" أصبح أكثر تيارات الإسلام السياسي تطرفا, وأكثرها فاعلية في تنفيذ العمليات الإرهابية, بل وأكثرها جاذبية بالنسبة للشباب المحبط والمهمش الذي يعيش ليس فقط في دولة داعش وإنما أيضا في أوساط الجاليات الإسلامية في المهجر, خاصة في الدول الغربية. 2- أن هذا التنظيم يملك الآن ما يكفي من الموارد، خصوصا بعد استيلائه على مناطق شاسعة وخصبة في كل من العراقوسوريا، لتمكينه من خوض حرب طويلة المدى في مواجهة الأعداء المتربصين به ليس فقط على صعيد الإقليم، وإنما على الصعيد العالمي أيضا. 3- أن مواجهة التنظيمات الإرهابية عموما, وتنظيم داعش بصفة خاصة, لا يجب أن تقتصر على الوسائل الأمنية وحدها, رغم أهميتها الحاسمة, وإنما يجب أن تمتد هذه المواجهة لتشمل العمل على استئصال الجذور التي تمد هذه التنظيمات بأسباب الحياة ومواصلة البقاء. 4- أن سد منابع الإرهاب ومعامل تفريخه يتطلب عملا منسقا على كافة الصعدة العالمية والإقليمية والمحلية, كما يتطلب مراجعة حقيقية لمختلف السياسات القديمة التي حاولت بشكل أو بآخر توظيف التطرف الديني لتحقيق أهداف سياسية أنانية وقصيرة المدى. غير أن العمليات الإرهابية التي وقعت مؤخرا في بروكسل تأتي في ظل أوضاع محلية وإقليمية وعالمية لا تساعد على بلورة سياسات فعالة لمكافحة الظاهرة الإرهابية, وهناك خشية حقيقية من أن تؤدي هذه الأوضاع إلى تمهيد الطريق أمام الجماعات الإرهابية المختلفة وإلى تمكينهم من كسب معركتهم على الصعيد الاستراتيجي في مواجهة كافة خصومهم. فعلى الصعيد المحلي, يلاحظ أن كل دولة تبدو مشغولة بهمومها وقضاياها الداخلية ولديها ما يكفي من المشكلات التي قد لا يكون الإرهاب أهمها، صحيح أن مواجهة الإرهاب أصبحت أحد المكونات الرئيسة للسياسات الداخلية والخارجية في معظم دول العالم, إلا أن كل دولة لا تزال تحتفظ لنفسها بالحق في تعريف الإرهاب وفي التعامل مع هذه الظاهرة بما يتفق ومصالحها الذاتية الخاصة، فما تعتبره دولة ما تنظيما إرهابيا يستوجب الحصار والعقاب, قد يكون بالنسبة لدولة أخرى فصيلا من فصائل حركة التحرر الوطني, يستحق الإشادة والدعم وتقديم المساعدة، وصحيح أن معظم دول العالم أصبحت ترى في "داعش" تنظيما إرهابيا, إلا أن ذلك لا يكفي وحده لضمان فاعلية الحرب الكونية على هذا التنظيم الخطر. فهناك دول أو حركات سياسية, في العالم العربي وفي مناطق أخرى من العالم, ترى في "النظام السوري" أو في "النظام الإيراني" أو في "حزب الله" أو في "حزب العمال الكردستاني" نظما أو تنظيمات لا تقل عن "داعش" خطورة أو إجراما, وبالتالي تبدو أولى بالرعاية وبإعلان الحرب عليها, وهو ما قد يؤدي إلى خلط الأوراق وإضعاف فاعلية الحرب على الإرهاب. وعلى الصعيد الإقليمي الأوروبي أو الشرق أوسطي, لا تبدو الأوضاع مواتية لصياغة وتنفيذ سياسات أوروبية أو شرق أوسطية مشتركة وفعالة في مواجهة الإرهاب. فسياسات التكامل الأوروبي في مختلف المجالات, وليس فقط في مجال مكافحة الإرهاب, تواجه مصاعب وتحديات تهدد العملية التكاملية برمتها بالتوقف, وربما بالنكوص والتراجع أو حتى بالانهيار مستقبلا, وهو ما تدل عليه مؤشرات كثيرة, منها فشل الاتحاد الأوروبي في إنقاذ اليونان من الإفلاس, وتهديد بريطانيا من الانسحاب كليا من الاتحاد الأوروبي، وعجز الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن الاتفاق على سياسة مشتركة لحل أزمة المهاجرين وتوزيع الحصص. وتلك كلها مؤشرات توحي بأن أوروبا في طريقها للعودة إلى ترجيح كفة السياسات الوطنية على حساب السياسات التكاملية أو السياسات المشتركة, في وقت تشكل فيه تدفقات الهجرة المقبلة من منطقة الشرق الأوسط عنصرا ضاغطا من شأنه تمهيد الطريق أمام احتمال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في أكثر من دولة أوروبية, وبالتالي تبني سياسات أوروبية معادية للعرب والمسلمين, وهو عامل يصب في صالح تغذية التطرف والإرهاب ولا يساعد على محاصرته أو محاربته. أما منطقة الشرق الأوسط فتحتوي على ما يكفي من التناقضات لوضع العديد من العراقيل أمام إمكانية تبني سياسات مشتركة في مواجهة الإرهاب أو حتى للحيلولة دون ذلك. فالعالم العربي أقرب ما يكون الآن إلى رجل المنطقة المريض الذي تتطلع دول الجوار القوية, ممثلة في إيران وتركيا وإسرائيل, لوراثة تركته الثمينة بعد أن أمسكت بتلابيه حروب أهلية وفتن طائفية وفساد واستبداد النظم الحاكمة, وكلها أمراض تكاد تعصف به وتجعله عاجزا عن بلورة سياسات مشتركة في أي مجال من المجالات, بما في ذلك مجال مكافحة الإرهاب، لذا تبدو لي منطقة الشرق الأوسط برمتها ليس فقط عاجزة عن تبني سياسة فعالة في مكافحة الإرهاب، وإنما تمثل أيضا بيئة حاضنة بامتياز لازدهار الإرهاب وترعره. أما على الصعيد العالمي, فليس من المتوقع أن تشهد الاستراتيجية الكونية لمكافحة الإرهاب, التي ثبت فشلها تماما, تغيرا ملموسا مقارنة بالوضع القائم حاليا، فسوف تظل الولاياتالمتحدة مشغولة حتى نهاية العام الحالي بالانتخابات الرئاسية, ومن ثم ليس من المتوقع أن يدخل أوباما تعديلات جوهرية على سياسته الحالية خلال الفترة المتبقية من ولايته, أو أن تطرأ على هذه السياسة تعديلات جوهرية في حال فوز هيلاري كلينتون بالموقع الرئاسي, والأرجح أن تتواصل سياسة الانسحاب الأمريكي تدريجيا من المنطقة. أما في حالة إقدام الحزب الجمهوري على ترشيح دونالد ترمب وفوزه بالمقعد الرئاسي, فالأرجح أن تتبنى الإدارة الأمريكية الجمهورية الجديدة سياسة أكثر تشددا, وأكثر اعتمادا على الوسائل الأمنية في مواجهة التنظيمات الإرهابية, لكن يتوقع لهذه السياسة أن تقترن بإجراءات ذات طبيعة عنصرية معادية للعرب والمسلمين, وهو ما قد يصب في النهاية لصالح استراتيجية داعش القائمة على الدفع في اتجاه وقوع صدام شامل بين المسلمين والغرب. لذا أعتقد أن روسيا ستبذل أقصى ما في وسعها - بالتعاون مع إدارة أوباما وبالتنسيق مع كل من الصينوإيران - لمواصلة الضغط من أجل التوصل إلى تسوية متوازنة للأزمة في سوريا قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ومع ذلك فستظل التوازنات العالمية والإقليمية عرضة للخلل والانهيار في حالة ترشيح وفوز دونالد ترامب. من المتوقع أن تتصاعد خلال الأسابيع القليلة المقبلة نغمة الخطاب السياسي المتشدد في مواجهة الجماعات الإرهابية, كرد على نجاح هذه الجماعات في توجيه ضربة جديدة لأوربا, لكن السياسات الفعلية على الأرض لن تتغير كثيرا, والأرجح أن تظل كذلك إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة. والسؤال : هل سينجح العالم خلال الفترة المتبقية في التوصل إلى تسوية للأزمة السورية؟ الواقع أن فاعلية الحرب على الإرهاب تتوقف على قدرة النظام العالمي على التوصل إلى تسوية لهذه الأزمة يمكن الاتكاز عليها لاستئصال داعش من سورياوالعراق معا، ودون هذا الاستئصال التام سيظل العالم كله يشعر بالتهديد.