لا أتحدث عن ضريبة القيمة المضافة، فذاك أمرٌ آخر. وأبدأ بسؤال: كيف ننوع مصادر خزانتنا العامة؟ بأن نحول خزانتنا العامة لتعتمد على مصادر إنتاجية وليس فقط ريعية، فالتحول من الريع للإنتاج يعني أن تساهم القطاعات الإنتاجية (غير النفطية) في إمداد الخزانة العامة بالمال. ندرك أنه منذ بداية الخمسينيات الميلادية، أصبحت عوائد مبيعات النفط هي المصدر الأول والرئيس لتمويل الخزانة العامة، واستمرت تلك المكانة المميزة للنفط دون منازع أو منافس لأكثر من ستة عقود، شهدنا خلالها تأرجحات خطيرة في تجارته، وتحدبات وتقعرات في قيمته كانت تبسط اقتصادنا حيناً وتجعله ينقبض أحياناً انقباضات مؤذية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في آنٍ. وشهدنا خلال تلك الفترة نمواً متزايداً لنصيب القطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي، ليس بالقدر المستهدف كماً ونوعاً وتوزيعاً، لكنه غدا يمثل كتلة حرجة من الناتج المحلي الإجمالي، إذ يمثل حالياً نحو 40 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة، وفقاً للتقديرات الرسمية، كما أنه حقق خلال العام الفائت (2015) نمواً قُدرّ بنحو 5.83 بالمائة. وعلى الرغم من تقهقر الأسعار المفزع خلال العام 2015، وانكماش القطاع النفطي المحلي بنحو الخُمُسَين، إلا أن الأنشطة غير النفطية حققت نمواً؛ الاتصالات والتخزين نحو 6 بالمائة، والتشييد 5.6 بالمائة، والتجارة 3.9 بالمائة تقريباً، والصناعات التحويلية 3.2 بالمائة، والخدمات المالية نحو 2.6 بالمائة. وأصبح لقطاعنا الخاص مكانة اقتصادية عالية في محيطه الخليجي والعربي وحتى عالمياً، فهو الأول في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط في أكثر من نشاط. ويقدر عدد الشركات القائمة في المملكة بنحو مئة ألف شركة، تمثل مرتكز القطاع الخاص. وعند النظر للشركات المساهمة المدرجة في السوق المالية السعودية نجد أنها تحقق أرباحاً في حدود مئة مليار ريال سنوياً، نصفها من نصيب القطاع المالي ولاسيما البنوك التجارية. والتحول من الريع للإنتاج، يعني أن تعتمد الخزانة العامة، بوتيرة تتصاعد تدريجياً، على إيرادات تنامي الأنشطة الإنتاجية. حالياً، هذا الأمر غير متحقق، فما هي مساهمة الشركات السعودية في تعزيز إيرادات الخزانة العامة للدولة؟ حصيلة الزكاة الشرعية (والتي لها أبواب محددة لصرفها، والتي تذهب إجمالاً لدعم الضمان الاجتماعي) لم تتجاوز 14.5 مليار ريال في العام 2015 لاقتصاد تتجاوز قيمة ناتجه المحلي الإجمالي 2.45 ترليون ريال! أما حصيلة ضريبة الدخل (التي تفرض على الأنشطة الاقتصادية لغير الأشخاص السعوديين الطبيعيين والاعتباريين المقيمين وغير المقيمين) فلم تتجاوز 14.0 مليار ريال، فإن جمعت البندين حصلت على 28.5 مليار ريال حصيلة الزكاة وضريبة الدخل، كما أسلفت لاقتصاد ترليونيّ، وهذا يُعدّ أقل من فُتات الفتات! ولعل من المناسب بيان أن الإيرادات غير النفطية التي حققتها الخزانة العامة لم تتجاوز 163.5 مليار ريال في العام 2015. ولابد من الالتفات لأن ثمة أنشطة يمارسها القطاع الخاص ما زالت تتمتع - بصورة أو بأخرى- بمزايا غير تنافسية، فمثلاً البنوك التجارية السعودية عددها محدود ومستقرّ، وليس ثمة ما يهدد "تقاسمها" للسوق المحلية، والتي يمكن اعتبارها - لكل الأسباب العملية- مغلقة على البنوك التجارية القائمة، لدرجة أنه لو أتى - وقد أتى- أعتى بنوك العالم وأكبرها من حيث الأصول والتنوع في المنتجات والأسواق، فلن يُرَخص له بأكثر من فرع واحد يتيم! لماذا؟ خذوا بنك "توتشيه بنك" كمثل، أو "بنك من أمريكا"، أو حتى بنك خليجي ضخم مثل "بنك الكويت الوطني". ولهذا، أزعم أن ما تتمتع به -عملياً- هو حماية من المنافسة، مما - إضافة لأسباب أخرى كضخامة واستقرار وحيوية اقتصادنا المحلي- تحقق أرباحاً متصاعدة، فقد حققت في العام 2015 نحو 44 مليار، كم ستورد للخزانة العامة للدولة في صورة زكاة (للحصة السعودية) وضريبة دخل (للحصة الأجنبية)؟ ملايين قليلة! تصور لو كان على البنوك والشركات التي تتمتع بامتياز (أي لأغراض هذا المقال تعمل في قطاع يعاني من موانع دخول تحدّ من دخول المنافسين إلا بعد الحصول على ترخيص) دفع ضريبة دخل على صافي الأرباح مقدارها 20 بالمائة، ما الأثر الاقتصادي؟ وما الأثر المالي؟ أما الأثر للخزانة العامة للدولة فهو نمو إيراداتها غير النفطية بنحو عشرة بالمائة مباشرة. أما الخيار العملي الآخر فهو فتح السوق للبنوك الأجنبية المعتبرة لتعمل في المملكة، وسيكون بوسعها تقديم منظومة متكاملة من الخدمات، وفوقها ضريبة دخل قدرها 20 بالمائة وفقاً لنظام ضريبة الدخل المعمول به حالياً. والأمر لا يقتصر على البنوك التجارية، وقد استخدمت هنا على سبيل المثال لا الحصر. قد لا يروق هذا الحديث للعديدين، لكن الشركات ومنشآت القطاع الخاص، ولاسيما الكبيرة، عليها أن تساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ليس فقط من خلال برامج المسئولية الاجتماعية، بل كذلك بدعم الخزانة العامة بدفع ضرائب على صافي الأرباح، فالكيانات الاقتصادية الكبرى الساعية للربح تتمتع بمزايا ليست متاحة لسواها، ونظير ذلك عليها المساهمة في تنمية المجتمع.