لعل الأغلبية منا مرَّتْ على فعاليات الاحتفال لشهر فبراير في الكويت، تلك الاحتفالات التي يميزها وجود كم هائل من الأغاني الوطنية. ولعل السمات المميزة للأغاني الوطنية الخليجية تكثيفها التاريخي على مفاهيم "المعاصَرة"، وبتر جذور التاريخ والحضارات التي مرَّتْ على هذه المنطقة، التي خرج منها الأنبياء والرسل، والممالك والأحداث العظيمة حتى فجر النبوة، ويُستثنى من ذلك -على استحياء- الأغاني الوطنية السعودية التي اشتملت غالبا على مفهومين: الرموز السياسية منذ تأسيس الدولة السعودية، وربط وجود هذا الوطن بدلالة دينية عائدة لمهبط الوحي ووجود الحرمين الشريفين، وفيما عدا ذلك يتوارى خلف صمت عجيب. لقد أشرف على هذه الأعمال الوطنية المتعددة بين قصيدة وأنشودة وأغنية ومسرح ومقالات إلخ... عدد من الكُتاب والمثقفين، الذين يتحملون بتر المواطن الخليجي عن مواطن قوته وتاريخه الحقيقي، فتاريخه الحقيقي لم يبدأ في العصر الحديث؛ بل هو أقدم من ذلك بكثير، بشكل يناسب حجم المؤامرة على دفن هذا التاريخ عن معنى "الوطنية" الفعليّة ! الأمر الذي يُلاحظ بوضوح في الأعمال الفنية في العراق مثلا، أو مصر، تلك الأعمال التي يعي فيها المواطن البسيط مُدَّخرات المكان الذي يسميه وطنا، ويستطيع عدّ الحضارات المتعاقبة وتواريخها وسط تعايش جميل بين أطياف المجتمع على مر العصور قبل أن تذكيهِ الطائفية مؤخرا. بينما يغيب معنى التاريخ والثقافة عن المواطن الخليجي، الذي لا يستحضر وجوده في صحبة هذا الوطن في قلب الزمن منذ القدم؛ فلا يتحسس نبض آثار مملكة هجر، ولا الأخدود ومدائن صالح.. ولا رحلات اللؤلؤ، أو رحلات العلماء ومدنهم وكتبهم.. لا يتحسس كل ذلك في قلبه، فقلبه لا ينبض لكل الذين أنجبهم وطنه وأنجبوه كأي مواطن عربي؛ لسبب بسيط يكمن في اللا مبالاة الثقافية لهذا الوطن الذي لم يخرج للعالم فجأة كما يراه العالم بعد النفط، ولم يُكتشف فجأة لملّاح تائهٍ في المحيط كما اكتُشفت أمريكا، بل كان موجودا منذ القدم ببصمات مميزة سقطت من مفهوم الوطن بِنيّة السقوط. لقد مرت على ذهني لحظات تأملتُ فيها صورة الرجل العراقي المهاجر الذي كان يتجول في المتحف البريطاني، فوجد فيه أثرا معروضا يعود لبلده؛ فانتحبَ أمام الناس بشدة في مشهد مهيب حتى صوَّروه وانتشرت صورته، فأخذتُ أسائلُ نفسي: ماذا لو كان أي مواطن خليجي في مكانه ووجد من آثار بلاده شيئا ضارب القدم؛ تُرى هل سيعرفه ويبكي بمثل انتماء هذا العراقي الأصيل؟! هذه دعوة مفتوحة للتأمل علَّها توافق شيئا نائما فيصحو.