امرأتان تجسدان اليوم تعارضاً واضحاً ومؤثراً على المستوى السياسي بين المانياوفرنسا. هذا التعارض ينعكس أيضا على الخلافات البينية بين بلدان الاتحاد الأوروبي وقيادة الاتحاد في بروكسل. ولأن ألمانياوفرنسا تمثلان النواة الصلبة لهذا الاتحاد فإن ما حدث خلال العام 2015 وبداية هذا العام في هذين البلدين على مستوى الخلاف السياسي قد يمثل في نظر بعض المحللين السياسيين منعطفاً مفصلياً على الاصطفافات بين القوى السياسية بناء على نفوذ هاتين المرأتين في حزبيهما والأحزاب المتحالفة معهما: حزب الجبهة الوطنية في فرنسا بقيادة مارلين لوبن، والحزب الديمقراطي المسيحي وحلفائه بقيادة إنجيلا مركل في ألمانيا. لا بد من التنويه بأن عوامل التأثير على الرأي العام (القواعد الانتخابية) ليس مشروطاً بالضرورة بوجود مركل في السلطة ولوبن في المعارضة، فالتحالفات الانتخابية قد توصل هذا الحزب أو ذاك كما يبدو ذلك واضحاً في شعبية لوبن الكاسحة وحزبها في الانتخابات البلدية أو تدني شعبية الرئيس فرنسوا هولاند وحزبه .وفي هذا الاتجاه قد لا تصل لوبن إلى السلطة، لكن تحالفاً يمينياً معتدلاً يصل إلى السلطة بفضل تبنيه والتزامه ببرامج الجبهة الوطنية علانية أو بشكل مموّه وهو ما يفعل جزءا كبيرا منه مانول فالس رئيس الوزراء الفرنسي الاشتراكي. خلف هذه التفاصيل الظاهرة يكمن الخلاف الفرنسي الألماني الجديد. بدأ هذا الخلاف بين فرنساوألمانيا حول الهجمات الدامية التي هزّت فرنسا وذهب ضحيتها مئات الأبرياء في بداية العام الماضي ونهايته، والموقف الفرنسي المتشدد مع اللاجئين، والموقف الألماني المتسامح ودفوعات مركل القائمة على المبادئ الإنسانية الموقع عليها من كافة دول الاتحاد الأوروبي والتي كان لفرنسا دور مهم في إعدادها وصياغتها. اليوم تبدو سياسة ألمانيا بقيادة مركل إنسانية ومتسامحة ومنفتحة، وسياسة فرنسا مهمومة ومسكونة بالخوف وانكفائية. ومع أحداث كولونيا في ألمانيا، وما قام به بعض الشذاذ من إعتداءات على النساء في مكان عام، سارعت أبواق العنصريين في ألمانياوفرنسا وتحديداً إعلام الجبهة الوطنية في فرنسا في نفخ صفارات إنذار الشعبوية ومعاداة الأجانب والتي لا تخطئ العين رؤيتها على وجه مارلين لوبن التي «لا تطيق سماع مركل ولا رؤيتها». مركل في ألمانيا وباسم أوروبا قبلت التحدي وهي التي وبالرغم من كل التقلبات السياسية ودهاليز التحالفات الانتخابية لم تقبل في أي يوم من أيام حياتها السياسية الوقوف على أرض اليمين المتطرف. وعندما راهن الكثير من المراقبين السياسيين على تنامي المعارضة على سياستها، نجحت في المؤتمر الأخير لحزبها في ديسمبر 2015 في اقناع المؤتمر في الحفاظ على سياستها وتحديداً حول موقفها وموقف حزبها بشكل صارم على أن استقبال مئات الآلاف من المهاجرين هو «ضرورة إنسانية» وقائم على مبدأ أخلاقي صارم. هذا في الوقت الذي لا تكف فيه مارلين لوبن عن تكرار الحديث عن «فيضان الهجرة» الذي سيقتلع الفرنسيين وثقافتهم ودينهم من أرضهم «حسب زعمها». المفارقة التي لا يستطيع الكثيرون فهمها هي أن الانزلاق نحو الأخذ بسياسات الماضي القائمة على أوهام العظمة والاستعلاء والعنصرية مجسّدةً في مارين لوبن تأتي من فرنسا بلد الحقوق والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، ويأتي النقيض من ألمانيا التي لا تذكر إلا وتكون النازية وهتلر لازمة في الحديث عنها. نهوض تيارات وأحزاب اليمين المتطرف في فرنسا وبلدان أوروبا الشرقية القائمة على الأيديولوجية العنصرية والشعبوية القائمة على الانكفاء الداخلي ومعاداة الأجانب أمر واضح قائم على أسباب متعددة من أهمها تبعات الأزمة المالية التي تعصف بالطبقات الوسطى والدنيا من شعوب هذه البلدان التي خابت آمالها في الطبقة السياسية التقليدية أكانت في الحكم أم في المعارضة. وأمام سياسات هذه الطبقة القائمة على تبادل الأدوار وتشابه البرامج القائمة على «سرقة» الخطاب الشعبوي لليمين المتطرف وإعادة إنتاجه أمام صفوف العاطلين والحانقين على أحزابهم غير العبور العقابي نحو فضاءات الإعلام المبشر بتقدم ممثلي اليمين المتطرف في استطلاعات الرأي العام المبالغ فيها. اليوم يتواجه في فرنساوألمانيا -وإن بشكل أقل- خطابان سياسيان يؤثران بشكل عملي ورمزي على هموم وخيارات الناخبين واصطفافاتهم الانتخابية. خطاب يميني متطرف وخطر ليس فقط على فرنسا بل على العلاقة الفرنسية -الألمانية- نواة أوروبا الصلبة تقوده مارلين لوبن في فرنسا وخطاب ديمقراطي إنساني أوروبي في ألمانيا قامت على مبادئه الدول الراسخة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتمثله إنجيلا مركل وحلفاؤها في ألمانياوفرنسا، وساحة الاحتمالات غنية.