أصابت نتائج الانتخابات الأوروبية الطبقة السياسية الفرنسية بصدمة يصعب استيعابها، ولا تزال ارتداداتها تتفاعل. وبعد الإنذار الذي وجهوه خلال الانتخابات البلدية في آذار (مارس) الماضي، اختار الناخبون الفرنسيون قلب الطاولة في وجه قياداتهم، وجعلوا حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف القوة السياسية الأولى في فرنسا. منذ الأحد الماضي، تحولت فرنسا التي توصف ببلد الحريات وحقوق الإنسان، إلى بلد يتصدر قواه السياسية حزب عنصري رافض لكل ما هو مختلف، ويدعو إلى انغلاق فرنسا على نفسها وتحصينها تجاه الخارج. والمفارقة أن فرنسا أبرز مؤسسي الاتحاد الأوروبي، باتت الدولة الأكثر رفضاً لأوروبا والأكثر لوماً لها في تحميلها مسؤولية كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها الفرنسيون. وفي كلمة وجهها إلى مواطنيه غداة الانتخابات الأوروبية، أوجز الرئيس فرنسوا هولاند الوضع على أكمل وجه، بالقول إن «الاقتراع أظهر الريبة من حزبه الاشتراكي الحاكم، والمعارضة اليمينية والسياسة عموماً». وأدت الانتخابات إلى فوز الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبن بنسبة 25 في المئة من الأصوات، وانتزعت من اليمين موقع الحزب المعارض الأول، في حين تقهقر الحزب الاشتراكي إلى أدنى نسبة انتخابية في تاريخه. وعلى غرار هولاند، أكد ساسة فرنسا فداحة الخلل القائم في علاقتهم بالناخبين، وتحدث بعضهم عن طلاق بين الرأي العام والسياسيين، فيما ركز آخرون على فقدان الثقة بالوعود الواهية. لكن المطلوب في فرنسا اليوم يتجاوز تقويم حجم وطبيعة ذلك الخلل الذي أدى إلى تغلغل طروحات اليمين المتطرف لدى فئات اجتماعية كانت لا تزال محصّنة ضدها. والجميع بات ملزماً بمراجعة في العمق، وربما إعادة صوغ مواقفه وتعهداته وأسلوبه في الحديث عنها لدى توجهه إلى المواطنين الذين باتوا يعتبرون لوبن الأكثر إصغاء اليهم والأكثر قابلية للتحدث بلغتهم. أولئك الذين أدلوا بأصواتهم للجبهة الوطنية ليسوا دخلاء على المجتمع الفرنسي، بل هم شباب وفقراء ومؤيدون سابقاً للأحزاب التقليدية، نتيجة دوافع عدة، وبينهم من بات يرى أن الهجرة عبء في ظل البطالة القياسية، ومن يعتبر أوروبا مصدر تعقيد لا مصدر رفاهية له. لكن القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً هو عزمهم على وضع الساسة أمام مسؤولياتهم وتأكيد الرغبة في تغيير حتمي. لذا، فإن الرهان المطروح على القوى السياسية هو ترميم علاقتها بالمواطنين، وصوغ مجموعة ردود وحلول سياسية واجتماعية مقنعة، واستبدال الصورة البائسة في أذهان الفرنسيين عن مسؤوليهم اليوم. والسؤال الآن هو: هل اليسار واليمين بمستوى التحدي الذي وضعهما الناخبون أمامه؟ وهل لديهما القدرة على نفض أساليبهما المعهودة لمصلحة تجديد فعلي؟ الفرنسي الذي ينظر إلى الحزب الحاكم لا يسعه إلا أن يلمس خيبته مما يسمعه يومياً من مسؤوليه والضائقة المالية التي يواجهها في ظل تشاؤم بمستقبله المعيشي والمهني، ومستقبل أبنائه. وعندما ينظر إلى اليمين المعارض يرى قوى منقسمة على ذاتها، غارقة في التنافس الشخصي بين أقطابها، وعاجزة عن تقديم بديل مقنع لممارسات الحكم. كان ذلك يثقل كاهل الفرنسي في ظل أجواء موبوءة بالفضائح المالية وفتح ملفات العمولات السرية وسوء استخدام الأموال العامة، وهذه قضايا لا يستثنى منها أي طرف سياسي، ما يوحي بأن الأزمة في فرنسا اليوم تقتضي تحولاً شاملاً يلقى على عاتق كل مَن لا يرغب في أن يرى لوبن في سدة الرئاسة عام 2017.