فشلت الجبهة الوطنية في الفوز بأي إقليم في فرنسا، لكن «الموجة الزرقاء»، وفق الإعلام الفرنسي، لا تزال صاعدة، ومارين لوبن لم تكن يوماً أقرب الى تحقيق حلمها بالوصول الى قصر الإليزيه. فمقابل الفشل الذي نجحت في تأمينه التحالفات بين الأحزاب التقليدية الفرنسية، نجاح «تاريخي» حققته الجبهة منفردة من خلال معركة شرسة كان الأعلام، بشقّيه التقليدي والإلكتروني، أحد محاورها الأساسية، ربحاً وخسارة. إعلامياً، يُحسب للجبهة نجاحها في استثمار حالة الرعب التي تلت أحداث باريس الدامية في 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، لتمرير خطابها المتطرف والكاره ليس فقط للمهاجرين واللاجئين، لكن لكل ما هو «غير فرنسي»، بما في ذلك العضوية في الاتحاد الأوروبي التي اعتبرها مرشحو الحزب السبب الأساس ل «فوضى الحدود». خطاب مرشحي الجبهة المتشدّد والعنصري، الذي وصل الى حدّ اعتبار ماريون ماريشال لوبن، «نجمة الحزب الصاعدة»، وفق صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية، أنه ليس في إمكان المسلمين أن يكونوا «مواطنين متساوين» مع المسيحيين الكاثوليك، لم يؤثّر في تقدّمهم وفق استطلاعات الرأي التي سبقت الجولة الأولى للانتخابات في 6 كانون الأول (ديسمبر). خلال هذه المرحلة، بدا واضحاً أن اعتبار الحزب - الذي لم تتجاوز نسبة المقترعين له النصف في المئة في أول انتخابات شارك فيها في العام 1973، والذي صوّت 82 في المئة من الفرنسيين ضد مرشّحه للرئاسة في الانتخابات الرئاسية في العام 2000 - نازياً لم يعد كافياً للحدّ من صعوده. لكن على رغم أن نتائج الجولة الأولى جاءت مطابقة للتوقعات، فإن نجاح الجبهة في مضاعفة عدد ناخبيها ثلاث مرات منذ انتخابات 2014، شكّل «صدمة»، وهي الكلمة التي التقت عندها الصحف الفرنسية صباح الاثنين، غداة إعلان النتائج، من «لو فيغارو» اليمينية الى «هومانيست» اليسارية، مروراً بمروحة الصحف المختلفة الانتماء. خلال الأسبوع الفاصل بين الجولتين الأولى والثانية، عبرت عشرات مقالات الرأي عن الأخطار التي تواجه فرنسا في حال وصول الجبهة، فضلاً عن تحقيقات تحدّثت عن عدم قانونية الوعود التي تقدّمها الجبهة لاستقطاب جمهور أوسع إلى جانب عدم كونها عملية وقابلة للتنفيذ، وبحثت في أسباب صعود شعبية اليمين المتطرف حتى ضمن المجموعات التي يفترض أنها ستكون الأكثر تضرراً، مثل تحقيق في مجلة «لو بوان» اليمينية عن المسلمين الذين أغرتهم الجبهة الوطنية، أو تحقيق «لو فيغارو» عن شعبية الجبهة في صفوف طلاب جامعة سيانس بو، وعشرات التحقيقات عن شعبية الحزب بين فئة الشباب. المقالات والتحقيقات لم تقتصر على الإعلام الفرنسي، بل وجدت طريقها بسرعة الى الصحف البريطانية والألمانية، وحتى الأميركية المتخوفة مما قد يعنيه مزيد من صعود اليمين على صعيد أوروبا أولاً، وعلى صعيد «القيم الغربية» تالياً. إذا كانت الصحافة التقليدية المكتوبة شكلت ضغطاً على الجبهة الوطنية خلال الفترة الفاصلة بين الجولتين الانتخابيتين، فقد يجوز القول إن دور المحطات التلفزيونية لم يكن أكثر دعماً لحملة اليمين المتطرف. خلال النقاشات التي شارك فيها سياسيون ومفكرون وفلاسفة وإعلاميون، كانت الأولوية لصدّ صعود اليمين المتطرف من أجل الحفاظ على مبادئ الجمهورية، حتى لدى من انتقدوا الطبقة السياسية التقليدية بجناحيها اليميني واليساري. المناظرات التلفزيونية بدورها، لعبت دوراً في إبراز صوت مرشحي الجبهة الوطنية، لكنه غير واضح الى أي حدّ يمكن القول إنها كانت من أسباب النجاح. فماريشال لوبن التي استطاعت أن تسحر جمهوراً واسعاً من مناصريها، بجمالها وأدائها المسرحي الرائع الذي شبّهه ديفيد جونز في مقال في «ديلي ميل» بأداء مغنية البوب تايلور سويفت، أثبتت أن قدرتها على تسجيل النقاط من خلال الظهور لا توازي قدرتها على الخوض في نقاشات مباشرة حول قضايا محدّدة. بدا هذا الأمر جلياً خلال أكثر من مناظرة، ابتسامتها التي لم تفارق وجهها والتي لا تخلو من استفزاز، ملبسها البسيط والعصري، شبابها، هذا كله لم يكن كافياً لتثبيت الصورة التي سعت الى تقديمها كمرشّحة للشباب، أو للمرأة. بل فعلت العكس كما تثبت مواقفها المتشدّدة من مواضيع زواج المثليين والإجهاض وتقديم الخدمات الاجتماعية للعائلات. في المقابل، إذا كانت الجبهة الوطنية لم تستفد كثيراً من الإعلام التقليدي، فمن المؤكد أن الإعلام الإلكتروني كان العمود الفقري لحملة الحزب الانتخابية وعلى أكثر من صعيد. فوفق أكثر من دراسة، تحتلّ الجبهة الوطنية المرتبة الأولى على صعيد استخدام «فايسبوك»، بفارق شاسع يتجاوز الضعفين عن حزب الجمهوريين، وأكثر من ضعفين عن الحزب الاشتراكي الحاكم. ولعب «تويتر» دوراً مهماً ليجعل مع وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى الجبهة الوطنية «حزب فرنسا الأول» إلكترونياً. ويرى محللون أن هذا النوع من «الإعلام الأفقي» مناسب جداً لحزب مثل الجبهة الوطنية، إذ إنه يعطي مساحة شاسعة لإطلاق شعارات شعبوية تفعل فعلها وإن بدت متناقضة. لكن الفاعلية في استخدام «تويتر» و «فايسبوك» لا تعني أن الفضاء الإلكتروني لم يستخدم ضد الجبهة الوطنية، فعبر «تويتر» نُشر الفيديو الأكثر متابعة خلال الأسبوع الفاصل بين جولتي الانتخاب، وهو عبارة عن تجميع كل لقاءات ماريون لوبن التلفزيونية المحرجة، ومن بينها فيديو تبكي خلاله بعد تلعثمها أثناء إجابتها عن سؤال صحافي. وأيضاً عبر «تويتر»، انطلقت حملة شارك فيها أكثر من ألف فنان مناهض للجبهة ومنتقد لزعم ماريون لوبن أنها ستسعى الى دعم الفن. في المحصلة النهائية، يمكن القول إن فرنسا، بمكوناتها التقليدية والقيمية، استطاعت أن تقف في وجه فوز اليمين المتطرف، لكنه لن يكون في وسع أحد تجاهل أكثر من ستة ملايين صوت نالتها الجبهة الوطنية وتجعل من زعيمتها مرشحة جدية للانتخابات الرئاسية في العام 2017. * صحافية ومراسلة تلفزيون «العربية»