القصيدة هي مملكة الشاعر الوحيدة وهو مليكها المتوج. هي تاجه وإكليل غاره. بها وفيها تتجلى ذاته بأبهى صفاتها، ولا يكون كما يشاء إلا بين جدران كلماتها التي يلوذ بها من صخب العالم وضجيج الكائنات من حوله. لا يتخلى الشاعر عن القصيدة وسيلة للخطاب مع العالم من حوله مهما بدا هذا العالم منصرفًا عنها غير آبه بها. وهي في ذات الوقت، وقبل أن تكون وسيلة وبعد أن تكون غاية في حد ذاتها يكتفى بها ويستغنى عما سواها. هكذا هي القصيدة عند حفنة قليلة من الشعراء الذين أخلصوا لوجهها فبادلتهم الإخلاص بمثله وظلت وفية لهم نظير وفائهم لها. ومن بين أولئك القلة الذين عرفتهم وأحببتهم أذكر الشاعر الفلسطيني طاهر رياض الذي لم أكف عن ترقب جديده منذ قرأت مجموعته الشعرية الفتنة التي تعرفت عليه من خلالها (حلاج الوقت) الصادرة عام 1993م. كتب عن تجربته واحتفى بها كثيرون، غير أن ما كتبه صديقه الشاعر الكبير الراحل محمود درويش يبقى هو الأبرز والأقرب للقبض على جوهر تجربته الشعرية المتفردة. يقول درويش: «طاهر رياض مسكون بالبحث عن الشعر الصافي الذي لا زمن له ولا فرسان قبيلة. فالمعنى في شعره هو نتاج العناق الأقصى بين الصورة والإيقاع. لكن سلالة شعره معلنة، إنها جماليات اللغة العربية وإيقاعات الشعر العربي التي لا يرى حداثة شعرية حقيقية دون الوفاء لها، والقدرة على تطويرها لاستيعاب المتغير». فهو شاعر حداثي، إذن، لكن دون التخلي عن جماليات اللغة العربية وإيقاعاتها التي يتردد صداها في قصائده المنحوتة بإزميل من الضوء. وحداثته تلك، وكما هو متوقع ومألوف جعلت منه شاعرًا نخبويًا، كما يصرح هو بذلك في أحد اللقاءات الصحفية القليلة التي أجريت معه، وهو أبعد ما يكون عن الشاعر الشعبوي الذي يخاطب الناس «بما يعرفونه مسبقًا فيطربون له». ولا يكتفي بقول ذلك وحسب، بل يصرح بأنه يشك في شعره إن أصبح يرضي الذوق العام، ليس ترفعًا أو تكبرًا على ذلك الذوق العام، لكن لأنه يؤمن ويعرف، كما يؤمن ويعرف كثيرون غيره (وأنا واحد من هؤلاء)، أن متذوقي الشعر الحقيقي قلة قليلة في زماننا النثري هذا. يواصل طاهر رياض في مجموعته الأخيرة (سراب الماورد)، الصادرة عن دار الأهلية عام 2014م فتوحاته الشعرية التي تكتنز بتجارب إنسانية متوهجة وبالغة الغنى، وتحضر ثيماته الأثيرة التي لا يفشل أبدًا في تقليب جمرها لتبقى متوقدة في ليل القصيدة الأبيض بنجومه السوداء. يحضر الحب والموت، أو الإيروس والثاناتوس، معًا في ثنائية صراعهما الأبدي، ويحضر الوقت الذي يشرب الشاعر نخبه «في ليلة لا فجر يؤويها»، وتحضر الكلمات التي لو كانت تعرف «كيف تنتفض الفراشة حرة/ من قيد شرنقة/ لكانت كلها شعرا!». ولأن قصائد طاهر رياض مكتنزنة بالرؤى والجماليات التي تعد بمزيد من الدهشة مع كل عودة جديدة وقراءة جديدة لها، فإنني أمني نفسي بعودة جديدة للكتابة عنها في مقالة أخرى قادمة.