يركن بشار زرقان عوده الى حائط القاعة الكبيرة في «دارة الفنون»، مستعيداً في ذاكرته كيف تنفّس الصعداء لحظة «بصم» الشاعر الراحل محمود درويش بيده على الحائط نفسه عندما افتتح «دارة زرقان للفنون» عام 2006. القاعة المسماة ب «درويش» أنهى فيها زرقان تلحين وغناء آخر أسطواناته مُغناة «الجدارية»، التي يوقّعها اليوم في «نينار آرت كافيه» في دمشق. يُلقّب زرقان ب «سمكة السلمون» كونه يسبح موسيقياً عكس التيار، من خلال اختياره للكلمات والألحان الصوفية التي جعلت إنتاجه الموسيقي المتأني على مسافة كبيرة مما هو مطروح في العالم العربي. يقول زرقان ل «الحياة» شارحاً بداية مشروع المُغناة الطويل، أنه عندما قرّر تلحين «الجدارية» ذهب إلى عمّان بمرافقة الشاعر طاهر رياض لمقابلة درويش، لطلب الإذن» ويضيف: «قال لي درويش حينها أن النص ليس بالسهل للتلحين، وقدّم لي بعضاً من دواوين شعر لشعراء غيره، قائلاً:هذا أسهل». قرأ درويش بعد نهاية اللقاء تصميم الملحن المولود في حي باب السلام الدمشقي، وقال له : «إسمع الديوان لاقى نجاحاً كبيراً وإذا فشلت فتخسر اسمك». لكن بعد حوالى سنة تقريباً، حضر درويش افتتاح مهرجان جرش عام 2001 حيث غنى زرقان «جدرايته». وكانت النتيجة إيجابية بحسب ما قال شاعر فلسطين مباشرة على الهواء عبر التلفزيون الأردني في اليوم التالي. «تحدث عن عملي الموسيقي بسعادة»، يقول زرقان. وبالطبع لم يُغن زرقان «الجدارية» كاملة بل اختار منها مقاطع تضمن سرداً مسرحياً محكماً لعمله الموسيقي. ولحّن هذه المقاطع على مرحلتين الأولى قدمت في جرش، بينما أكمل تلحين الجزء الباقي، بعد وفاة درويش الذي كان على علم بما انتقى من قصيدته. وقدم ما لحن في المرحلة الثانية على مسرح قصر الثقافة في البحرين العام الجاري 2009. البحث عن موسيقى الحركة في النص الصوفي، هو ما عمل عليه زرقان بعد دراسته مسرح الصوت في «إستوديو بيغماليون» في فرنسا في منتصف الثمانينات. ولحّن وأدّى نصوصاً للحلاج، ورابعة العدوية، وبدر شاكر السيّاب، والشريف الرضي، وعمر ابن الفارض، وأبا حيان التوحيدي، وأحمد الشهاوي. حضرت أشعار درويش سابقاً في أسطوانتي زرقان «الهدهد»، و «سقط الحصان». وهو أخيراً يستحضر في عمله الموسيقي النهائي مُغناة «الجدارية» روح درويش الشعرية المتصوفة. فالشعر الصوفي «أقرب إلى تطلعاتي وهواجسي وقلقي تجاه الموسيقى والمسرح والغناء». ويرى زرقان أنه واجه مع نفسه كموسيقي تحدياً كبيراً بتحويل «بعض مقاطع الجدارية من لغة قصيدة لها خصوصيتها وإيقاعها وجماليتها الشعرية، إلى موسيقى مُغناة لها فرادتها في سردها الغنائي». ويظهر الحوار الحكائي الموسيقي في أسطوانته غير تابع للإيقاع الشعري، إنما تقع عليه مهمة وضع الشعر في صحوة موسيقيّة ثانية دون التفريط في موسيقى الكلمة، مع حيوية ورشاقة أضافها غناء منفرد لليندا بيطار لمقاطع من النص الجديد رافقت به مجمل غناء زرقان لأسطوانته الأخيرة. ابتداء ب «هذا هو اسمك، قالت إمرأة...» المقطع الشعري الأول من قصيدة «جدارية» المكتوبة عام 1999، ومروراً ب «أنا الغريب، بكل ما أوتيت من لغتي...»، ومنتهياً ب «أيها الموت... هزمتك يا موت الفنون...»، يستخدم زرقان مقاماً موسيقياً واحداً مقدماً فكرة عن «جدية التحدي» الذي أراد إضافته إلى الجدارية بدلاً من الحل الأسهل وهو «التنويع والانتقال إلى أمزجة مختلفة تعطيها المقامات المتنوعة». ويركز زرقان في العمل على وحدة الجوهر والمضمون باعتماده على «الكنتاتا» الإيطالية، وهي نوع موسيقي مقابل لل «سوناتا» كونها قطعة موسيقية مكتوبة لتؤدى بصوت بشري مغنى. ويشرح زرقان عن اختياره للنوع الموسيقي الغربي في تلحين قصيدة عربية: «يمكن اعتبار الجدارية «كنتاتا» من حيث رصانة هذا العمل وقربه من الموسيقى الكلاسيكية العربية». أما العناصر المسرحية الموجودة في القصيدة، فأضافت عنصراً مقارباً بين العمل الموسيقي و «الكانتاتا» عبر ارتباطها الوثيق بالأسلوب المتحدر من «المادريغال» حيث «تروي الشخصيات فيها الأحداث بشكل مغنى من دون أداء مسرحي». وبما أن هذا النوع من اللحن الموسيقي ليس له «دور» فكان المقام الاختياري الواحد الخيار اللحني الأصعب عند زرقان، بسبب تماسكه وعدم تنوعه بمقامات أخرى. «أعطيت للجدارية اسم «كنتاتا» لأنها الأقرب لهذا النوع من الغناء، ولا يوجد في العربية اسم موسيقي مشابه لها سوى مُغناة». ويتابع زرقان: «الجدارية هي كنتاتا لها مفرداتها وأجواؤها لأنها ضمن موسيقى عربية كلاسيكية». رافق غناء زرقان في أسطوانته عزف على آلات القانون، والعود، والكولا، والكمان، والتشيللو، والكونترباص، والإيقاع، بقيادة الفنان موفق الذهبي، في تسجيل موسيقي لمدة 43 دقيقة.