جاءت الصفقة النووية التي أبرمتها الولاياتالمتحدة وخمس قوى كبرى أخرى مع إيران في يوليو 2015 ثمرة مجهود دام عقدًا كاملًا من الزمن في مجال تحديد الأسلحة، واشتمل على فرض عقوبات في محاولة لعرقلة مسعى إيران إلى امتلاك قدرات أسلحة نووية. وتعتبر خطة العمل الشاملة المشتركة واحدة من بين اتفاقيات تحديد الأسلحة الأشد قصورًا في التاريخ، لكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما تعهد بقضاء ما تبقى له في سدة الحكم في تحاشي ضغوط الكونغرس الرامية إلى تعديل بنودها. غير أن القضية الأكبر من هذا حتى هي افتقار واشنطن إلى سياسة شاملة إزاء إيران. فعلى مدى عقود من الزمن، رفضت الولاياتالمتحدة التعامل مع الموضوع الخطير الذي يعطي القضية النووية أهميتها البالغة، ألا وهو طبيعة النظام الإيراني الحاكم. وان أية سياسة إزاء إيران تستحق أن تسمى سياسية لابد من أن تنطلق من حقيقة أن الجمهورية الإسلامية ليست بالدولة التقليدية التي تجري تقديرات براغماتية لمصالحها القومية، بل هي نظام ثوري. أخفق واضعو السياسات الأمريكيون منذ أيام الرئيس رونالد ريغان في إدراك أنه لا يمكن أن يكون هناك تقارب بين الحكومتين الأمريكيةوالإيرانية؛ لأن هذا التقارب، مثلما يدرك زعماء إيران، سينقض محض وجود النظام الإيراني. لقد تغافلوا عن حقيقة أن إيران دولة خطيرة خطرًا غير عادي، ويمتد خطرها هذا ليطال جيرانها وحلفاء الولاياتالمتحدة المقربين، مثل إسرائيل، واستقرار منطقة الشرق الأوسط بأسرها. وفي هذا السياق، نشرت دورية «فورين أفيرز» الأمريكية في عدد يناير- فبراير 2016، مقالا تحليليا للباحثين إليوت أيه. كوهين، وإيريك إس. إيدلمان، وراي تاكيه، قالوا فيه إنه نظرًا لخطورة التحدي الذي تشكله إيران في مواجهة المصالح الأمريكية، يتعين على واشنطن أن تسعى إلى الحد من نفوذ ذلك البلد المتنامي في الشرق الأوسط مع العمل على نحو ممنهج على تقويض دعائم قوته، مضيفين ان ايران ستسير، على المدى الطويل، على خطى الاتحاد السوفيتي وغيره من أطلال القرن العشرين الأيديولوجية الأخرى من حيث انهيارها في نهاية المطاف، لكن حتى يأتي ذلك اليوم، لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي بين واشنطنوطهران. صفقة مجحفة وأوضح الباحثون أنه لا يمكن لأي سياسة معقولة إزاء إيران أن تقوم جنبًا إلى جنب مع خطة العمل الشاملة المشتركة بالصيغة التي هي عليها اليوم؛ إذ تعترف هذه الاتفاقية بحق إيران في تخصيب اليورانيوم وفي نهاية المطاف الوصول بقدرة تخصيب اليورانيوم إلى المستوى الصناعي، كما تعترف بأن إيران تستطيع إقامة بنية تحتية نووية متطورة للبحوث والتطوير، وتضع الأسس لنظام تحقُّق يعطي إيران إشعارًا مسبقًا بفترة أطول مما ينبغي بعمليات التفتيش، ولا تحد بصورة ذات معنى من تطوير الصواريخ الباليستية، التي تمثل أحد أعمدة أي برنامج للأسلحة النووية. كما لا تتيح هذه الاتفاقية إمكانية وصول كافية إلى المنشآت والعلماء ذوي الصلة بأنشطة إيران السابقة في تطوير الأسلحة النووية، ومن ثم تحرم المفتشين من المعرفة التي يحتاجون إليها لتقييم نطاق برنامج إيران الحالي. وبعد 15 سنة من الآن، وما إن تنتهي صلاحية هذه الاتفاقية، سيكون لإيران مطلق الحرية في إقامة أي عدد تشاء من المنشآت النووية، وتكديس مقدار ما تريد من يورانيوم مخصب، وتخصيب ذلك اليورانيوم إلى أي مستوى تراه ضروريًّا. إذن فخطة العمل الشاملة المشتركة تثبّت مكانة إيران كقوة عتبة نووية وتمهّد السبيل إلى قنبلة نووية إيرانية في نهاية المطاف. ولفت الباحثون إلى أن هذه الاتفاقية ستشجع أيضًا خصوم إيران الإقليميين على السعي إلى امتلاك قدرات نووية؛ إذ من المستبعد أن تقف الدول السُّنية التي تنافس إيران على القوة، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، مكتوفة الأيدي فيما تتطلع إيران بأبصارها إلى مستقبل قريب لا تواجه فيه أي قيود نووية. وإذا نظرنا الآن نجد الإمارات العربية المتحدة، التي تخلت عن تخصيب اليورانيوم في إطار اتفاقها النووي المدني مع الولاياتالمتحدة، بصدد إعادة النظر في هذا التعهد. وأما المفارقة الساخرة فهي احتمال أن تشعل إدارة أوباما شرارة سباق التسلح النووي في المنطقة، وهو بالضبط الشيء الذي كانت ترجو تفاديه. يشير أنصار الصفقة النووية إلى الضرورات الاقتصادية التي أجبرت طهران على الموافقة عليها، لكن طهران كانت مدفوعة أيضًا بالحتميات العلمية التي يقتضيها بناء الأسلحة النووية؛ إذ تعرّض برنامج إيران النووي، على مدى معظم فترة وجوده، للتخريب والعقوبات، واعتمد على أجهزة طرد مركزي بدائية. وكما اعترف حامد بعيدي نجاد، أحد كبار المفاوضين الإيرانيين، فإن المؤسسة العلمية الإيرانية تدرك أن أي برنامج نووي يعوّل عليه وبالحجم الصناعي يحتاج إلى أجهزة طرد مركزي متقدمة، بمعنى أجهزة تعمل بسرعة أكبر 20 مرة من أجهزة الطرد المركزي البدائية. أدرك المسؤولون الإيرانيون ضرورة حماية برنامجهم من التخريب والانتقام العسكري المحتمل. وكانت المشكلة تكمن في أن إدخال الجيل الجديد من أجهزة الطرد المركزي سيستغرق من ثماني سنوات إلى عشر، لذا كان التحدي الماثل أمام الدبلوماسيين الإيرانيين هو شرعنة البرنامج النووي أثناء التفاوض بشأن جدول زمني للبحوث والتطوير يفي بمتطلبات هؤلاء العلماء. وقد لبّت الاتفاقية النهائية هذه الحاجات، حسبما أوضح الباحثون، حيث تسمح خطة العمل الشاملة المشتركة لإيران بتطوير أجهزة طرد مركزي متقدمة والبدء في تركيبها بعد ثماني سنوات من إبرام الاتفاقية، وهكذا لم تفز إيران برفع العقوبات وشرعنة برنامجها النووي فحسب، بل نالت الإطار الزمني الذي كانت تحتاج إليه من أجل الإنتاج الشامل لأجهزة الطرد المركزي المتقدمة. والحقيقة أنه في معرض تسليط الرئيس الإيراني حسن روحاني الضوء على إنجازات مفاوضيه، شدد على «تطوير أجهزة الطرد المركزي الجديدة، بداية من وضع التصورات إلى الإنتاج الشامل». ويتميز الجيل الجديد من أجهزة الطرد المركزي بسرعته وكفاءته الكبيرتين اللتين تمكّنان إيران بسهولة من إقامة منشأة صغيرة تنتج اليورانيوم النووي الصالح للاستخدام في صناعة الأسلحة يستعصي اكتشافها، وما إن يصير في حوزة إيران مثل هذا اليورانيوم النووي، سيكون في متناول أيديها أيضًا أسطول من الصواريخ الباليستية التي يعوّل عليها. لا بد من مراجعة الاتفاقية وإعادة تقديمها وأكد الباحثون أنه يتعين على الرئيس التالي للولايات المتحدة أن يراجع خطة العمل الشاملة المشتركة؛ نظرًا لما تحتوي عليه من جوانب كثيرة مثيرة للقلق. بل وقد اعترف وزير الخارجية جون كيري بأن أية إدارة مستقبلية ربما تجد «سبيلًا ما إلى تقويتها». والحقيقة أن هناك عددًا من السبل إلى ذلك. الشيء الأهم، برأي الباحثين، هو أن تلغي الولاياتالمتحدة بند الإنهاء التدريجي، الذي يرفع بعضًا من العقوبات الأساسية المفروضة على البرنامج الإيراني في غضون ما لا يزيد على ثماني سنوات. وبدلًا من اعتماد إطار زمني عشوائي ليحدد مدة بقاء الاتفاقية، يتعين على المسؤولين الأمريكيين أن يصروا على ضرورة أن تجري الولاياتالمتحدة والقوى الكبرى الخمس الأخرى التي أبرمت الصفقة وإيران - ما إن ينقضي أجل هذه الصفقة- تصويتًا بالأغلبية على ما إذا كان يتم تمديد قيود الاتفاقية لمدة خمس سنوات إضافية أم لا، على أن يُجرى مثل هذا التصويت كل خمس سنوات فيما بعد ذلك. والسابقة التي تعتمد عليها مثل هذه الخطوة هي معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية؛ فبعد أن انقضى أجل المعاهدة، صوتت غالبية الدول الأعضاء فيها لصالح تمديدها إلى ما لا نهاية. كما ينبغي على الولاياتالمتحدة أيضًا أن تدعو إيران إلى شحن كل ما في حوزتها من يورانيوم مخصب إلى خارج البلاد إلى الأبد. ولا ننس أن خطة العمل الشاملة المشتركة ذاتها تنص على أن يتم إخراج ما لدى إيران من وقود مستهلك يسفر عنه إنتاج البلوتونيوم إلى الخارج بصفة دائمة، وينبغي تطبيق عملية مماثلة فيما يخص اليورانيوم المخصب. ونظرًا لأن الجيل الجديد من أجهزة الطرد المركزي سيتمخض عن توسيع هائل لقدرة إيران على تخصيب اليورانيوم ويقلص الزمن الذي تحتاجه إيران لتجاوز العتبة النووية، فالواجب على الولاياتالمتحدة أن تصر على أن يقتصر مخزون إيران من أجهزة الطرد المركزي على البدائي منها. وأما صواريخ إيران الباليستية فليست لها وظيفة مشروعة غير إيصال حمولة نووية، ومن ثم يتعين على المجتمع الدولي أن يواصل مطالبته بأن تقلع إيران بصفة دائمة عن تطوير مثل هذه الصواريخ. كما أكد الباحثون على ضرورة أن تضغط أيضًا الولاياتالمتحدة في اتجاه المزيد من عمليات التفتيش الاقتحامي، حيث تمهل الخطة الحالية إيران 24 يومًا لكي تسمح بدخول المفتشين إلى مواقع معينة، وشتان بين هذا وما كان البيت الأبيض قد وعد به من عمليات تفتيش «في أي وقت وفي أي مكان». ولا بد لأي صفقة منقحة من أن تستند إلى تجربة جنوب أفريقيا، التي فككت برنامجها النووي تقريبا عام 1990، حيث أتاح البلد للوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بحصر شامل لتاريخه النووي السابق وسمح للمفتشين بزيارة المنشآت العسكرية بإخطار مسبق لا يتعدى اليوم الواحد. وبما أن جنوب أفريقيا كانت عاقدة العزم على نزع سلاحها النووي، فإنها لم تُبْد أي تردد إزاء مثل هذه المتطلبات. ولو كانت إيران ملتزمة بإثبات حسن نواياها، فالواجب عليها أن تقبل نظام تحقق مماثلًا. تقول إدارة أوباما إن أي محاولة لإعادة النظر في إجراءات خطة العمل الشاملة المشتركة ستثير ضجة عالمية مما يؤدي إلى عزل الولاياتالمتحدة عن حلفائها، لكن مثل هذه الادعاءات الصاخبة تتجاهل حقيقة أن خطة العمل الشاملة المشتركة ليست معاهدة ملزمة قانونًا بل اتفاقية سياسية طوعية. علاوة على ذلك فإنها لا تتمتع بدعم الجمهور الأمريكي ولا بدعم نوابه المنتخبين في الكونغرس، ويستطيع أي رئيس جديد للبلاد أن يعيد النظر فيها، بل ويجب عليه ذلك. لا ينكر أحد أن حلفاء الولاياتالمتحدة ربما لا يكونون متحمسين بشدة لمراجعة خطة العمل الشاملة المشتركة؛ حيث تتمتع الاتفاقية، التي جاءت نتاج مجهود مضن متعدد الأطراف، بالدعم الكامل من مجلس الأمن الدولي. ومع ذلك فإن حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط سيرحبون بإجراء أية تغييرات، حيث تعارض إسرائيل هذه الصفقة، كما أعلنت دول الخليج مثل السعودية صراحة أن دعمها لخطة العمل الشاملة المشتركة فاتر في أحسن الأحوال وما هو إلا محاولة لإرضاء إدارة أوباما. سيكون من الصعب إقناع فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة بهذا الأمر، وينبغي على الرئيس المقبل أن يوضح لهؤلاء الحلفاء أنه مستعد للتفاوض مع إيران لكنه ينتوي أن يحول دون إيران والحصول على قدرة نووية. ويجب على الدبلوماسيين الأمريكيين أن ينقلوا في الخفاء رسالة مفادها أن الطريقة التي تتجاوب بها البلدان الأوروبية مع تعديلات خطة العمل الشاملة المشتركة ستؤثر على علاقاتها بالولاياتالمتحدة. ولو كان هناك رئيس صادق العزم فبإمكانه أن يعبئ المجتمع الدولي وراء مجموعة من المطالب التي ستعزز الاتفاقية بشدة وتوسع جاذبيتها لدى الحزبين وأنصارهما في الداخل الأمريكي. يشير أنصار خطة العمل الشاملة المشتركة إلى أن إيران لن توافق أبدًا على مثل هذه التعديلات، لكن التاريخ يثبت لنا أن الأمم تصير إلى التفاوض على اتفاقيات بدت ذات يوم مستحيلة. فأثناء مفاوضات تحديد الأسلحة مع السوفييت في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، هاجمت وسائل الإعلام ريغان ووصفته بالسذاجة لإصراره على إزالة الاتحاد السوفيتي جميع صواريخه متوسطة المدى من أوروبا. ومع ذلك فهذا هو ما فعلت موسكو بالضبط في عام 1987؛ إذ لم يكن أمام السوفييت، في مواجهة المشكلات الداخلية الوخيمة، خيار كبير إلا التفاوض، وينبغي أن يصْدق الشيء نفسه على إيران في يومنا هذا، ولا سيما مع زيادة الضغط من جانب الولاياتالمتحدة وطول صبرها عليها. العزل والتضييق بالإضافة إلى إعادة النظر في الاتفاقية النووية، شدد الباحثون على ضرورة أن تعاقب الولاياتالمتحدةإيران على عدوانها الإقليمي أو رعايتها للإرهاب أو انتهاكاتها لحقوق الإنسان. ولكي تفعل هذا فلا بد لها من عزل إيران عن الاقتصاد العالمي باللجوء إلى أكبر قدر ممكن من هيكل العقوبات (وكما أقر كيري فإنه حتى مع سريان الصفقة النووية، يظل احتمال فرض العقوبات قائمًا على أي كيان إيراني ضالع في الإرهاب أو انتهاكات حقوق الإنسان). كما ينبغي أن تطلق الولاياتالمتحدة حملة من الحرب السياسية لتأجيج شعور الشعب الإيراني بخيبة الأمل في نظامه الحاكم وتعميق الشقاق داخل الطغمة الحاكمة. أظهرت إدارة أوباما إحجامًا يثير الاستغراب عن انتقاد الجمهورية الإسلامية على انتهاكاتها الداخلية، وعلى ما يبدو أن البيت الأبيض كانت لديه رغبة مستميتة في إبرام صفقة نووية، لدرجة أنه امتنع عن توجيه أي نقد لحكام إيران، حتى فيما عكف النظام الإسلامي على سجن معارضيه وتزوير الانتخابات وفرض الرقابة على وسائل الإعلام وتحقيق أرقام قياسية في إعدام السجناء. لكن الولاياتالمتحدة تتحمل التزامًا أخلاقيًّا بأن تجاهر باعتراضها على مثل هذه الاعتداءات، ولا يمكن لأي استراتيجية ضغط أن تنجح من دون محاولة منسقة للضغط على إيران في الداخل. وقال الباحثون: سينظر المؤرخون المستقبليون بأنظارهم إلى الوراء إلى 2009 باعتبارها السنة التي تغيّرت فيها إيران الحديثة تغيرًا نهائيًّا. ففي يونيو من ذلك العام، تحوّل سباق رئاسي هادئ يشارك فيه مرشحون باهتون فجأة إلى سجال حامي الوطيس على السلطة السياسية فيما خرج الإيرانيون إلى الشوارع احتجاجًا على تزوير نتائج الانتخابات. نزع ذلك الحدث غطاء الشرعية عن الحكم الديني وقطع الأواصر بين الدولة والمجتمع، ومنذ ذلك الحين ضاق الفضاء السياسي في إيران، فيما عمد المتشددون إلى تفريغ الجناح اليساري في البلد من مضمونه، والنتيجة هي استبعاد أكثر ساسة البلد شعبية من دهاليز السلطة أو الزج بهم في السجون. لم يأذن انتخاب روحاني في عام 2013 - كما ظن بعض من في الغرب في شيء من السذاجة- بمجيء نظام إصلاحي جديد؛ إذ لم يبد روحاني اهتمامًا بالسعي إلى تنفيذ إصلاحات ديمقراطية أو حقوقية، وتركزت جهوده على تسوية الملف النووي. واليوم نجد حماة الثورة يتربعون على رأس دولة تعرضت للتفريغ الممنهج من مضمونها وتعتمد اعتمادًا متزايدًا على الخوف لإدامة حكمها. ولكي ينزع المسؤولون الأمريكيون غطاء الشرعية عن الجمهورية الإسلامية فلا بد لهم من البدء في الطعن في قيم النظام الحاكم وقابليته للاستمرار. ينبغي عليهم نبذ إيران باعتبارها من فلول دكتاتوريات القرن العشرين وأنها حتمًا ستندثر. لا أحد يملك قوة أكبر على تعبئة المعارضة في الخارج من رئيس أمريكي، فبيانات الشجب والاستنكار التي كان يطلقها الرئيس ريغان ضد الاتحاد السوفيتي فعلت الكثير لكي تحشد قوى التغيير الكائنة وراء الستار الحديدي. ومن سوء الحظ أن أوباما، وهو الخطيب الموهوب، امتنع عن تبني كفاح الشعب الإيراني من أجل الحرية، وينبغي على الرئيس المقبل أن يتبناه. في هذه الأثناء، يتعين على الحكومة الأمريكية أن تعرض بوضوح مغامرات إيران الإمبريالية باهظة التكاليف وتوجيهها مواردها الشحيحة إلى الجماعات الإرهابية مما على شاكلة «حزب الله» في لبنان والطغاة ممن على شاكلة بشار الأسد في سوريا. ويجب عليها أن تقارن بين الحياة في إيران على ما هي عليه الآن وبينها في ظل حكّام على قدر أكبر من المسؤولية. وفي الوقت نفسه، لا بد أن تشجع الولاياتالمتحدة أعضاء النظام الإيراني على الفرار وتشيع خبر الفارين منهم؛ فهذا من شأنه أن يثير البلبلة والظنون في صفوف حكومة مبتلاة من قبل بجنون الارتياب. ولزيادة هذه الضغوط، يرى الباحثون أنه ينبغي على الولاياتالمتحدة أن توجه بعض عقوباتها إلى الجزء الذي يتحمل الشق الأكبر من المسؤولية عن القهر والإرهاب والعدوان الإقليمي من النظام الحاكم، ألا وهو حرس الثورة الإسلامية. فهذه الجماعة تملك شركات تزاول أعمالها في طائفة من المجالات، ومن ضمنها صناعة السيارات، والاتصالات، والطاقة، والبناء والتعمير، والهندسة، والشحن، والنقل الجوي، ويتعين على واشنطن أن تُخضع هذه الشركات للعقوبات الثانوية بالإضافة إلى العقوبات الأولية، مما يعني أن أي شركات تتعامل مع هذه الكيانات ستفقد إمكانية نفاذها إلى السوق الأمريكية. ولتيسير مثل هذه الخطوة، ينبغي على وزارة الخارجية أن تصنف حرس الثورة الإسلامية كتنظيم إرهابي أجنبي، وهو ما سيعني أن الشركات الدولية التي أقامت روابط تجارية مع الحرس ستجازف بفقدان قدرتها على النفاذ إلى السوق الأمريكية. ويجب على الحكومة الأمريكية أن تصنّف عددًا أكبر من المسؤولين داخل هذا الكيان كمنتهكين لحقوق الإنسان. كما ينبغي أيضًا على واشنطن أن تسعى إلى الإبقاء على العقوبات المفروضة على المؤسسات المالية الإيرانية؛ حيث نجحت هذه القيود في منع إيران من إجراء معاملات طبيعية من خلال النظام المالي العالمي. والأسباب وجيهة تمامًا؛ بحسب الباحثين، حيث تورطت كبرى البنوك الإيرانية في طائفة من الجرائم، من بينها انتشار الأسلحة النووية والإرهاب وغسل الأموال، على نحو ما تبين لوزارة الخزانة الأمريكية مرارًا. لقد ارتكبت الولاياتالمتحدة خطأ مأساويا بالتزامها الصمت حيال احتجاجات 2009 في إيران، لكن الجمهورية الإسلامية تظل معرضة للثورة الشعبية. والحقيقة أن الدولة الدينية، منذ قيامها في إيران، وهي تكافح الحركات الاحتجاجية المطالبة بالمساءلة والحرية. ففي سنوات الثورة الأولى، اضطر الملالي إلى قمع طائفة من القوى العلمانية التي كانت تريد توجيه دفة البلاد إلى اتجاه أكثر ليبرالية. وفي التسعينيات، أصر المصلحون على قيام حكومة إسلامية تستوعب مع ذلك المبادئ الديمقراطية. وفي عام 2009، زلزلت الحركة الخضراء قواعد النظام. الشيء الوحيد اليقيني عن مستقبل إيران هو أن حركة احتجاجية أخرى ستخرج إلى الوجود في النهاية، وعندما يحدث هذا، فالواجب على الولاياتالمتحدة أن تكون مهيأة للوقوف في صفها. الحد من النفوذ الإقليمي لكي يرضخ ملالي إيران المعاندون إلى الأعراف الدولية، يرى الباحثون أنه لا بد من أن يُطْبق عليهم كل ما حولهم من جدران. لذا ففيما تعمل الولاياتالمتحدة على إجهاد الاقتصاد الإيراني وبث بذور الفرقة في مجتمعها، ينبغي عليها أيضًا أن تسعى بقوة إلى دحر نفوذها في عموم الشرق الأوسط، حيث تستطيع واشنطن، بوقوفها في وجه طهران وما حققته من مكاسب، أن تفرض ثمنا إضافيًّا على النظام الحاكم وتساهم في إحلال الاستقرار الإقليمي. وهذا يعني مساعدة المنطقة على إعادة تشكيل دولها الفاشلة وإنهاء حروبها الأهلية الكثيرة، بما أن إيران تزدهر اعتمادًا على الفوضى. ويبدو في الوقت الراهن أن إيران وصلت إلى ذروة قوتها، حيث يهيمن عملاؤها على ثلاثة عواصم عربية وهي دمشق وبغداد وصنعاء، ويتمتعون بنفوذ شديد في عاصمة رابعة وهي بيروت، وهناك المئات إن لم يكن الآلاف من عملائها وجنودها دخلوا سوريا للمحاربة في صف نظام الأسد، ولديها بين صفوف «حزب الله» قوة تدين لها بالطاعة من محاربي العصابات والمشاة الخفيفة والإرهابيين. بيد أن أنشطة إيران الكثيرة تنطوي على مخاطر الإفراط في التوسع. وقد تكبدت إيران بالفعل خسائر في الأرواح في الميدان بين صفوف ضباط قوة القدس النخبوية، التي تنتمي إلى حرس الثورة الإسلامية، ومع إرسالها المزيد من المقاتلين إلى سوريا، فهي ربما تجازف بتعريض نفسها بدرجة أكبر للاستهداف. وفي غضون ذلك، يجب أن تتحمل إيران ثمن رعايتها عددًا كبيرًا من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية التي تدعمها بالمال في عموم المنطقة. فالإمبريالية ربما تكون مغرية، لكنها مستنزفة مالية في الوقت نفسه. ورأى الباحثون أنه ستحتاج الولاياتالمتحدة، فيما تواجه إيران، إلى أطراف فاعلة إقليمية تتحمل شطرها من المسؤولية. ولا يوجد من بين هؤلاء اللاعبين من يرغب في الرضوخ لمزاعم إيران الإمبريالية، لكنهم في ظل تقهقر الولاياتالمتحدة، تحوطوا لرهاناتهم متخذين موقفًا وسطًا بين الخصمين. سيتطلب تشكيل ائتلاف جديد مناهض لإيران شيئًا افتقرت إليه إدارة أوباما، وهو استراتيجية تشدد القيود المفروضة على طهران وتقوي العلاقات التي تجمع واشنطن بحلفائها التقليديين، علمًا بأن هذا لن يكون بالأمر السهل. فقد سمحت السلبية الأمريكية للمنطقة بالتحول إلى دوامة من الجماعات والمصالح المتضاربة، ومن المنطقي أن يشعر الجمهور الأمريكي بالقلق حيال أي سياسة تتطلب عددًا كبيرًا من الجنود الأمريكيين على الأرض. ولن تؤدي الإضافة الأخيرة إلى المعادلة (المتمثلة في القوة العسكرية الروسية) إلا إلى زيادة درجة الصعوبة. لا شك أن كثيرًا من هذه المشكلات كان يمكن تفاديه لو كانت الولاياتالمتحدة قدمت معونات فعالة للعناصر المعتدلة من المعارضة السورية من قبل في عام 2011. وسيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، فعل الشيء نفسه اليوم؛ حيث صار التشدد هو الطابع الغالب على السكان السوريين، واستولت الجماعات المتطرفة على مزيد من الأرض. ومع ذلك فما زال بإمكان الولاياتالمتحدة أن تدرب الوكلاء القادرين على تكبيد النظام الحاكم خسائر أكبر وتجهزهم، وأبرز هؤلاء الوكلاء الأكراد ومقاتلو العشائر العربية والدروز. لكن هذه الجماعات لن تحقق مكاسب ذات معنى في ساحة المعركة إلا إذا سمحت لها الولاياتالمتحدة بمهاجمة نظام الأسد؛ إذ كان من أسباب إخفاق البرامج التدريبية السابقة أنها كانت تشترط على المتمردين الاقتصار في هجماتهم على «داعش»، وبالتالي واجهت صعوبة في تجنيد الأفراد. ولا شك أن منح المزيد من الدعم ومن حرية العمل سيخفف هذه المشكلات، ومثله أيضًا وجود المزيد من أفراد القوات الخاصة الأمريكية، بما في ذلك نشر مراقبين جويين أماميين داخل الحدود السورية. وأوضح الباحثون أنه ستتطلب إمالة كفة القوات لصالح مناهضي نظام الأسد أيضًا إقناع تركيا بإعادة تنظيم أولوياتها في سوريا، حيث انصب تركيز الأتراك في المقام الأول حتى الآن على محاربة الأكراد ثم محاربة الأسد، وفي المقام الثالث تأتي المعركة ضد «داعش». وسيتطلب الاقتراب بأنقرة من الاصطفاف مع السياسة الأمريكية تبادلًا حقيقيًّا لوجهات النظر بدلًا من حوار الصُّمّان الذي تواصل منذ عام 2011. وسيتعين على الدبلوماسيين الأمريكيين أن يبرهنوا على أنهم يشاطرون تركيا رغبتها في تخليص سوريا من نظام الأسد. وسيتعين على الأتراك بدورهم أن يتخلوا عن إصرارهم على شن حرب على الأكراد ويوافقوا على جعل الحرب ضد الأسد وداعش على رأس أولوياتهم. لا بد من إقناع تركيا بأن أفضل سبيل لتحسين العلاقات مع الأكراد هو أن يعود الرئيس رجب طيب أردوغان إلى سياسته السابقة الرامية إلى تحسين أوضاعهم الصعبة داخل تركيا.