ما الذي يجعل شخصاً ما وعاءً فارغاً يستقبل كل ما يلقى في جوفه؟ يستقبلُ ويَقْبلُ بكل شيء على علاته. ما الذي يجعله ظلاً لغيره، أو صدى لصوت آخر، أو بيدقاً على رقعة الشطرنج؟ يبدو أنه لا شيء يؤدي إلى مثل تلك الحال سوى غياب التفكير النقدي، وعدم إخضاع ما يتلقاه الفرد للتحليل والمساءلة. لا يقتصر ذلك على عامة الناس، بل يشمل كذلك شريحة محسوبة على النخبة. لذلك يساهم فقدان الحس النقدي في صنع (مثقف أمي) أيّاً كانت الألقاب التي يتقلدها. فالثقافة ليست مجرد شهادة عليا، وإنما هي رؤية أوسع وأعمق، ودرجة فضول معرفي عالية، وذهنية قادرة على الغربلة قبل الاختيار. وسوف يبدو الأمر مضحكا حين يتولى من لا يملك تفكيرا نقديا مهمة التنوير والارتقاء بالوعي. وإذا كان ذلك شأن بعض المحسوبين على النخبة، فما بالك بشخص متواضع المعرفة يتأثر بكل ما يقرأ ويشاهد ويسمع، ثم يصدق به ويتبناه. إن شخصا كهذا لا يعدو أن يكون ترساً في آلة، أو عضواً في جوقة، أو قشة في مهب الريح تتقاذفه الآراء المتناقضة ذات اليمين، وذات الشمال. هكذا، وبصورة سريالية، يتحول الوعاء الذي أشرت إليه آنفا إلى ببغاء، ثم إلى بيدق على رقعة الشطرنج، يلتقطه المتلاعبون بالعقول ويسخرونه لخدمة أجنداتهم، فهو في نظرهم «الأبله المفيد». يلتقطونه وهو عجينة رخوة يتم تشكيلها حتى تصل إلى مرحلة التصلب والتطرف والدوغمائية. لا يوجد ما هو أسهل من التلاعب بعقل خاوٍ لا يسأل ولا يناقش ولا يجادل. ويفتتن بمنطق أي مفوَّه أجوف، ويفوّضه أمر التفكير نيابة عنه. إن أكثر ما يقلق المتلاعبين بالعقول، ويعيق تنفيذ أجنداتهم، عقل نقدي يثير عجاج الأسئلة المزعجة. وفي حين يصل التصلب بصاحبه إلى طريق مسدود، أو حالة من الثبات والسبات، يبدي صاحب التفكير العقلاني من المرونة والتواضع ما يجعله يتراجع عن آرائه إذا ثبت تهافتها، فهو في حالة تجدد دائم. وعلى النقيض من ذلك، يساهم التفكير الأسطوري في تكريس حالة الثبات، ويعمم ثقافةَ القطيع والتبعية المطلقة، وقوامها أناس غارقون في اليقين «لا يسألون على ما قيل برهانا»! أشرت مرة، وفي سياق آخر، إلى حكاية وردت في كتاب (خيانة الوصايا) للروائي ميلان كونديرا في حديثه عن الدعابة. تعبر الحكاية عن ثقافة القطيع، وقِيَم القطيع البعيدة عن التفكير النقدي وثقافة الأسئلة. ويمكن تلخيصها على النحو التالي: في عرض البحر يلتقي زورق صغير بسفينة مزدحمة بتجار خراف، فيستفزُّ تاجرٌ أحدَ ركاب الزورق ويدعى (بانورج) موجها إليه سيلا من الشتائم المهينة دون سبب. يحاول (بانورج) أن ينتقم من أولئك التجار فيشتري من التاجر الذي شتمه خروفا ويلقيه في البحر، عندئذ تندفع الخراف الأخرى للمضي في القفز إلى الماء اقتداء بالخروف الأول. حكاية واضحة لا تحتاج إلى تعليق. حين تتعدد اللافتات، وتتضارب الإرادات، ويغني كل فريق على ليلاه، فإنه لا سبيل إلى بلورة موقفٍ مستقلٍّ نابعٍ من إرادة حرة دون عقل نقدي. وقد يتعذر تحقيق ذلك قبل إعادة النظر في أساليب التربية التي تعتمد على النقل والحفظ والتلقين، وتساهم في إنتاج عقول قابلة للاستلاب. وقد كان هذا النموذج القابل للانقياد وقود تلك الحرائق التي أتت على اليابس والأخضر. ولو امتلك المستَلَبُ عقلاً نقدياً لتساءل عمَّا يدعوه إلى أن يكون ترساً في آلة التوحش المدمرة.