نغادر ساحة للفن لنجد أننا ننغمر في ساحة للفن أخرى، من الأشباح في السرادق الأميركي نجد أنفسنا في هذا الفيلم الذي خرج حديثاً بقاعات السينما، والمسمى (تضحية البيدق)، وهو يوثق بشكل درامي تجربة معجزة لاعب الشطرنج الأميركي روبرت جيمس والمشهور باسم بوبي فيشر، والذي هاجرت به والدته اليهودية من الاتحاد السوفيتي لأميركا، وكانت موسوسة بفكرة أنهم مطاردون بصفتهم شيوعيين، ونقلت له ذلك الوسواس الذي سيستولي عليه تدريجياً ويدمره. فيلم يضعك على الحد بين العبقرية والجنون، وتدرك أن الدماغ البشري ماهو إلا هوة تنفتح من أعاليها على المطلق أو تهوي في الجنون، حين تلمس النور، تخترق وتحترق على رأي المتصوفة الكبار. «سألعب ولن أكف عن اللعب، ولست مثل لاعبي الشطرنج الروس والذين يكسبون بطولة العالم ثم يختفون لأشهر، أنا أريد أن أنهض من نومي كل يوم وأسعى وراء متحدٍ جديد، فهذا جيد للعبة الشطرنج، إذ يجعل اللعبة محط اهتمام دوماً، وأيضاً هو جيد للحساب البنكي، أريد جمع شيء من المال، إن أبطال ألعاب القوى يوقعون عقوداً بمئات الآلاف من الدولارات، وإذا كان العالم يتسع لهم فلا بد وأن يتسع لي. فقبل كل شيء أنا سفير للنوايا الحسنة الأميركية». ذلك ما قاله في مقابلة مع الصحافي براد داراتش لمجلة لايف عام 1971. يتناول الفيلم كوابيس هذا الكائن والتي تلاحقه منذ طفولته، وتتمحور حول أصوات وقع أقدام وأجهزة تنصت تندس فيما حوله ابتداءً من الأثاث وانتهاءً بسماعة الهاتف، يحطم كل شيء ليخلص من تلك المطاردة التي لا ندري أهي وهمية أم واقع ينكشف له هو وحده لحساسيته، ونعجز نحن لسذاجتنا عن تصديقه. وربما لجأ فيشر للشطرنج لمحاربة تلك الكوابيس، فلقد كانت رقعة الشطرنج وبيادقها وملكتها المتحارب جلوها تسليته منذ طفولته، إذ أنه درب نفسه بلا معلم، تعلم فقط من خلال مراقبته للاعبين الكبار، ودراسة حركاتهم في مطبوعات يلتهمها بشغف، حتى انتهى بالفوز على بطل العالم في الشطرنج الروسي بوريس سباسكي، وإحرازه للقب بطل العالم في الشطرنج حين كان في التاسعة والعشرين من العمر عام 1972. البطولة التي راقبها العالم بحماسة عبر شاشات التليفزيونات ورفعت أسهم اللعبة التي ظلت حتى حينه مقصورة على الخاصة، وأشعلت شغفاً بها وانتشرت في الحدائق العامة والجامعات والبيوت والمقاهي اقتداء بهذه الأسطورة بوبي فيشر، والذي صار نجماً عالمياً و احتلَّت أخبار مباراته العبقرية الصحافة الدولية لمدة شهرين. وإن تلك المباراة قد دخلت التاريخ وهي بنظري مشهد مخيف من انفتاح العقل البشري على المطلق، مباراة في مسرح عبثي غرائبي، حيث صار لدبيب النملة وأزيز كاميرات التصوير ووقع الأقدام وحتى سعال الجمهور الطارئ بل وحتى أفكارهم لها دبيب عمالقة تطأ عقل اللاعبين، ما دفع بوبي فيشر للتوقف عن اللعب واشتراط أن يُسْتَبعَد الجمهور ويتم اللعب في قاعة للعب البونج بونج منعزلة تحت الأرض. وإن تجلِّي عبقرية فيشر وانتصاره المبدئي أربك بطل العالم بوريسكي وجعله يدخل هو أيضاً في مزاج كابوسي بل ويوقف اللعب ليشكو من دبيب حشرتين في قاعدة مقعده تربك تفكيره. تحتبس أنفاس الجمهور يرقب ذينيك الكائنين في صراع على حافة الجنون، حين سدد بوبي فيشر ضربته القاضية وأربك خصمه ومعه أساطين الشطرنج بحركاته غير المسبوقة والتي فاجأت الجميع وقادت لنصره، ودخل تكنيكه الجديد كتب فن اللعبة وصار يدرس الآن للاعبين. تاريخ لعبة الشطرنج هو تاريخ عقول على الحافة. تنظر في تاريخ اللعبة وتجد أن لاعبيها قد اجتازوا تلك الحافة للجانب الآخر، فلقد لمعت أسطورة الأميركي بول مورفي عام 1858، والذي هزم كافة خصومه بلا استثناء ونال بطولة العالم وفاجأ الجميع بالاعتزل في قمة نجاحه وهو في الحادية والعشرين من العمر، ولم يلبث أن انتحر في السادسة والعشرين فراراً من كوابيس تطارده، كوابيس من العالم الذي ولجه حين تعمقه باللعبة. وتأرخ ذلك اللاعب بصفته الفخر والألم في تاريخ الشطرنج. ويعتقد أن لعبة الشطرنج أصلها هندي وترجع لما قبل القرن السابع عشر الميلادي، ولقد اكتسبت قيمتها الحالية في أسبانيا في القرن الخامس عشر، لتنتشر بعدها في العالم ويتبناها اللاعبون الروس بقدراتهم الذهنية المذهلة، وشهد عالم الشطرنج عباقرة مثل اللاعب إيمانويل لاسكر من مواليد بولندا 1868، والذي تخرج بالمانيا عالماً بالرياضيات والفلسفة، ولقد احتفظ ببطولة العالم للشطرنج لمدة 27 عاماً منذ عام 1894 وحتى 1921. والذي كان متقدماً على عصره، فلقد كان يلجأ لإرباك خصومه سيكولوجياً، إذ يستغل عقدة النقص عند خصمه ويتلاعب بها ما يزعزع الخصم ويؤدي لانتصاره الأكيد، وهذا جعله يدخل التاريخ بصفته أقوى اللاعبين على الإطلاق ولكل الأزمان. ولقد مَثَّلَ الشطرنج فخراً للاتحاد السوفيتي، وكان اللاعب يعامل بصفته سفير درجة أولى لبلده، بل يعامل كجنرال في جيش يحقق انتصارات على رقعة الشطرنج ويضع الاتحاد السوفيتي في قمة الدهاء الفكري العالمي خلال فترة الحرب الباردة والتنافس الحاد بين الاتحاد السوفيتي وأميركا، ومن هنا تأتي أهمية فوز بوبي فيشر على بوريس سباسكي في تلك المبارة الحاسمة عام 1972، إذ دمر ذلك الفخر الروسي بعد أن احتفظ سباسكي ببطولة العالم لمدة أربع سنوات في تلك الفترة الحاسمة من الحرب الباردة منذ عام 1969 وحتى 1972، واعتبرت تلك المباراة مباراة القرن بلا منازع وجعلت من فيشر بطل الشطرنج الأعظم لكل الأزمان. والطريف أنه ومنذ منتصف القرن العشرين قد بدأت برمجة الكمبيوتر للعب الشطرنج بأعلى المهارات، ولقد تحققت بوساطته اختراقات متجاوزة في اللعبة، وسجل عام 1997 انتصار أول كمبيوتر على البشر، وذلك حين فاز السوبر آي بي إم كمبيوتر المسمى العمق الأزرق على بطل الشطرنج جاري كاسباروف. ينتهي فيلم تضحية البيدق بمشاهد حقيقية من حياة فيشر، والذي تتفاقم كوابيسه النفسية حتى وفاته عام 2008 في أيسلندة. ونقف بتصريحاته في السنوات الأخيرة والتي تدعو للحيرة أهي دلالة جنون أم دلالة رؤيا لعمق المستور والمسكوت عنه، حين يهاجم الجميع بلا استثناء، النظام في الولاياتالمتحدة والشيوعيين واليهود وأجهزة المخابرات التي يجزم بأنها تتجسس على العالم وتسعى للهيمنة عليه. نتوقف ببعض تصريحاته حين يقول: «انظروا لما قدمته لأميركا، لم يسبق لأحد منفرداً أن يُسهم في تعزيز صورة أميركا أمام العالم كما فعلت أنا، أنا مؤمن بذلك تماماً. ففي عام 1972 عندما أحرزتُ بطولة العالم للشطرنج كانت الولاياتالمتحدة، كما تعلمون، تقدم صورة بكونها بلد كرة القدم، وبلد البيسبول، لكن لا أحد يفكر بالولايات المتحد بصفتها بلد الفكر، ولقد بدلت كل ذلك منفرداً، أليس كذلك؟ يبدو أنني كنت مفيداً لبلدي في ذلك الوقت، لأنها حينذاك كانت تخوض الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي..» تلك كلمات بوبي فيشر في مقابلة أذيعت بالمذياع عام 2001. وتستوقفك تلك الأهمية التي لعبها هذا اللاعب، وكيف أن لعبة يمكن أن تخدم صورة بلد كبير كالولاياتالمتحدة. هذا الرجل المصادم و الذي يُعَبِّر عن تفرده وحريته التي قادته للجنون بقوله: «أُفَضِّل أن أترك عقلي حراً طليقاً حتى لو أوصدوا عليَّ في زنزانة سجن، على أن أكون جباناً لا أجرؤ على التصريح بآرائي كما أشاء». في مقابلة بالمذياع عام 1999. «أنا أفضل لاعب شطرنج في العالم، و أنا هنا لإثبات ذلك». «وإنني لأعترض على وصفي بعبقري الشطرنج، فأنا أعتبر نفسي عبقرياً من كل النواحي وحدث أنني ألعب الشطرنج. وإن الحثالة أمثال كاسباروف يمكن تسميتهم بعباقرة شطرنج، لكنهم أغبياء حين يجيء الأمر للحكمة والوعي الروحي، فهم لايفقهون شيئاً خارج اللعبة». مقابلة بالمذياع عام 2001. فهل كان فيشر عبقرياً كاملاً أم مجرد رجل ممسوس بالنور الذي امتصه بالنهاية في ذلك السهل الشاسع بآيسلندة؟ وربما نجد إجابة في حديث خاطف يفاجئنا فيه بقوله «أنا أبحث عن الحقيقة، الشطرنج هو بحث عن الحقيقة».