المثقفون هم من يحملون قدراً عالياً من المعارف التي تؤهلهم الى النظرة المتبصرة الشاملة المعاني والمباني، وبما يمكنهم من الالتزام الفكري والسياسي الحاذق السليم تجاه مجتمعاتهم، والمثقف الحق، يستطيع بثقافته المعرفية والفكرية أن يفصل بين تثقيفات القول وتجليات الفكر متجاوزاً الشكل الى المضمون مزاوجاً بين التحضر والتطور، وهو بقدراته الثقافية والفكرية يُعتبر عنصراً مهماً من أجل التقدم بالمجتمع الذي يعيش فيه بالمساهمة في تكوين بُنيته الإنسانية ونسيجه الاجتماعي. وبالضرورة لكل مثقف هُوية ثقافية ينتمي اليها ويدافع عنها وينتصر لها منافحاً بكل ما يملك من معارف، لما يميزه عن غيره من أسلوب مُؤثر في الحياة العامة، وكثيراً ما يخلط البعض بين المثقف والعالِم باحكام العلوم في تخصص بعينه بفهم علمي دقيق خاضع للقواعد المثبتة لذلك العلم، وتبرز هنا مسألة في غاية الأهمية، حيث يكون الخلط شائعاً بين الفقيه والمفكر والمثقف أمراً واقعاً برغم الفرق بينهم من حيث انّ الفقيه هو العالِم بالأحكام الشرعية العملية، والمتخصِّص في مجالٍ بعينه ومن المفترض فيه أن يكون على فَهمٍ للنصوص الشرعية، والمرادِ منها فهمًا علميًّا دقيقًا خاضعًا للقواعد المثبتة في مصادرها الفقهية الرئيسية، إضافةً إلى علوم اللغة التي يتوسل بها من اجل إيصال صحيح الفهم للمسألة المعينة للآخرين. اما المفكر فهو من يعمِل العقل بالمعلوم للوصول إلى المجهول،، أي: إحضار معرفتين ليخرج منهما بمعرفة ثالثة بما يمكن من ترتيب أمورٍ معلومة من اجل الوصول إلى مجهولٍ غير معلومٍ من قبل، وهذا يعني أن المفكر ينتقل من المقدمات والمبادئ التي عنده إلى النتيجة التي يبني عليها عملاً باعتباره صاحب رأيٍ في مجالات الحياة بمختلف مشاربها من خلال تعمُّقه في الأفكار الأخرى وقدرته على تحليلها ونقدها، والتأسيس لأفكار جديدة إيجابية، بحكم ضرورة المواكبة من اجل التطور والرقي الى درجات أسمى، وبما يمكن من الوصول الى حقيقة لم تزل إثباتاتها في تجلٍّ وازدياد، وما زاد الانسان علماً إلا وقد قلّ جهله. أما المثقف فهو المطَّلع إلى حد الاستيعاب على الواقع وتطوراته، وتياراته الاجتماعية والفكرية والعلمية، وهو لا يمتلك رأيًا فقهيًّا أو فكريًّا اجتهاديًّا محدداً خاصًّا به تمييزًا له عن الفقيه والمفكر، بل إنه أي المثقف يحمل الأفكار ويستوعبها، ثم ينشرها ويشرحها في عدة اتجاهات، فيتحرك في إطار مرجعيةٍ علميةٍ وفكريةٍ تحركًا واعيًا وهادفًا وتكامليًّا. في اندماج سلوكي لا ينفصل بحالٍ من الأحوال عن قناعاته الذاتية المتجهة نحو تطوير المجتمع الذي يعيش فيه، وليس كل من ملك حصيلة من العلوم والمعارف بالضرورة هو عالم ولا بفقيه وكذلك يصدق القول بالنسبة للمثقف، والمثقف قد يكون شخصا موسوعيا بمعنى انه مُلِم بعدة مجالات ثقافية، وقد يكون تخصصيا كأن يكون متخصصاً في مجالٍ بعينه كالعلوم الإنسانية (الاجتماع والسياسة) على سبيل المثال، ويظل المثقف دائماً مصدراً للتحريض وحضّ الآخرين في اتخاذ بعض المواقف وفي تقديم الرؤى والأفكار الجديدة الإيجابية في حياة البشر، وهو لا يتساير مع التيارات المتقلبة أينما مالت مال كحال الذي يميل أينما مالت مصالحه الذاتية المنفصلة عن مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه. والمثقف ليس كما السياسي الذي يعمل من اجل الوصول لهدفه بغض النظر عن المصلحة العامة في معانيها الإنسانية والوطنية السامية، ذلك أنّ السياسي يغلِّب ال أنا على ال نحن على عكس المثقف الحق الذي يغلِّب مصلحة المجتمع عامة دون مناورة او مداورة، ذلك انّ علاقة المثقف الحق بالمجتمع وبالوطن الذي يعيش فيه هي علاقة إيجابية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالولاء لمكونات ذلك الوطن في عمومه بصورة أساسية وتحقيق أسباب سعادته وراحته في الأمن والاستقرار وسبر آفاق المستقبل من اجل التطور والازدهار. ومن المعروف تاريخياً انّ الحضارات الإنسانية المعاصرة قد توصلت إلى مراحل متقدمة بسبب احترام العقول والأوساط الثقافية الحقة باعتبارها نهراً للأفكار الجديدة لا ينضب منبعه العذب ومصبه في تجدد مستمر، ومتى ما توفر مناخ الحرية لتلك العقول أصبحت تلك العقول أكثر عطاءً في سبيل تجاوز الكثير من عقابيل وأسباب عدم التقدم. ذلك أنّ المجتمعات التي تقدمت من قبل قد شهدت الدور الثقافي القيادي للمثقف في إيجاد الحلول لكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتوفر ذلك من خلال اتاحة حرية الرأي واحترام ما يُثري العقل السياسي برؤى جديدة في النظريات الاجتماعية والاقتصادية، وقد شهد تاريخ البشرية الكثير من العقول المثقفة التي كانت سبباً في انتقال مجتمعاتها من مرحلة إلى أخرى في سلام، بينما كان الكثير من الساسة وبما افتقروا اليه من انفتاح على الثقافة الإيجابية الثرة والفكر الحاذق كانوا سبباً في إحلال الكوارث على دولهم وتمزيق مجتمعاتهم بسبب حجبهم لأفكار المثقف الحق، ما فوت عليهم فرصة مساهمة تلك الأفكار في حل معضلات الكوارث قبل حلولها، وكثيراً ما تضيع فرصة الخروج من النفق في الوقت المناسب بسبب ذلك الحجب... وما احوجنا الى الانفتاح على الثقافة والمثقفين وبسط أسباب تفاعلهما مع كافة الأوساط السياسية والاجتماعية..!