إذا ما تأملنا مشهدنا الثقافي ورصدنا الأسماء التي تهتم بالشأن الفلسفي والفكري فإن الكثير يتحفظ على إطلاق لقب المفكر على اسم ما من الأسماء التي تتعاطى مع الفكر والفلسفة. لكن تظل هناك أسماء ذكورية يشار إليها بأنها تسجل حضورا معرفيا وتقدم رؤى فلسفية تدلل على جدية هذا الحضور، لكن في المقابل فإن هناك غيابا كليا للمرأة في الكتابة بالشأن الفلسفي، ونلاحظ أن لدينا مبدعات في الشعر وفي السرد ولدينا كاتبات في شأن المرأة وحقوقها لكن المرأة المفكرة غائبة. هذا الغياب للمرأة في الشأن الفلسفي والفكري بماذا يفسر؟ وهل هو متعلق بأن المرأة السعودية انشغلت بقضاياها وتناست البعد الفلسفي للاشياء! وفي هذا المحور نرصد عددا من الآراء التي تقدم لنا رؤيتها على سؤال: لماذا ليس لدينا امرأة مفكرة؟ في البدء تحدث الاستاذ إبراهيم البليهي قائلاً: المرأة دخلتْ المجالات المعرفية متأخرة جدا فقد أُرغمتْ خلال القرون على الاختفاء والاكتفاء والانكفاء، ثم إن عَدَد المفكرين في أي مجتمع هو عددٌ محدود جدا في كل العصور، وعند جميع الأمم، فالقليل منهم يكفي فليس مهمًّا كثرتهم بل المهم أن يُستجاب للناضج منهم، ثم إن بعض المبدعات في السرد قد تأسَّس لديهن الإبداع على رؤى فكرية عميقة، فأنت مثلاً حين تقرأ روايات رجاء عالم، أو أميمة الخميس على سبيل المثال لا الحصر، ستجد أنك تقرأ روايات ممتعة لكنها أيضا مؤسَّسة على رؤى فكرية عميقة ثم لا تنسى أن المرأة في مجتمعنا إلى وقت قريب كانت ممنوعة من التعليم ولا يتاح لها الإطلاع على ما يموج في العالم من الأفكار، ومع ذلك فإن المرأة السعودية حاليًّا أثبتت أنها لا تقلُّ عن الرجل في تحصيل العلم وعشق المعرفة، بل إنها أظهرت تفوقاً ملحوظاً ليس فقط في التعليم وإنما في الوثوب خارج الأطواق الثقافية. وعلى سبيل المثال أجد أن فاطمة الوهيبي تُجَسَّد في كتاباتها وعياً فكريًّا ناضجاً ونادراً وقد تجلى ذلك في كتابها (المواجهة وتجليات الذات) وفي كتابها الآخر (نظرية المعنى) وكذلك في المقالات التي تشع فكراً ونضجاً وفصاحة وقد أدهشتني وأنا استمع إليها مرة وهي تتحدث في الإذاعة فأحسستُ بالفخر أنْ يكون في بلدي امرأة بهذا المستوى الفكري المتألق، ليس هذا فحسب، بل كان أداؤها وهي تتحدث فصيحاً متدفقاً آسراً، وهذا مثالٌ على أن المرأة عندنا قادرة على التحليق المنفرد ومثل ذلك يمكن أن يقال عن أخريات مثل أميرة الزهراني في كتابها (الذات في مواجهة العالم ) ومثل ثريا الشهري وبصيرة الداود وحسناء القنيعير في بعض مقالاتها المتميزة وأنا هنا أُورد أمثلة وليس على سبيل الحصر. د. أميرة كشغري أما الدكتورة حسناء القنيعير فتساءلت في البدء قائلة: وهل لدينا مفكر سعودي؟؟؟ أعطني مفكرًا واحدًا من الإسلامويين أو ممن يسمون ليبراليين ، في قامة محمد عبده، أو علي عبدالرازق، أو جورج طرابيشي، أو محمد أركون، أو محمد عابد الجابري، أو علي حرب؟ هل يوجد رجل واحد فقط لديه مشروع فكري أو تنويري سواء أكانت منطلقاته دينية أم عصرية، سوى مقالات وأحاديث مرسلة تبث عبر الفضاء؟ لدينا كثير من القضايا الشائكة والمتشابكة، وكل ما يفعله من تعتبرهم مفكرين لا يعدو التجاذب من هنا وهناك ، ولماذا على المرأة أن تكون بارزة في كل شيء ألا تكفيها الصراعات التي تعانيها في حياتها اليومية؟ أعطوها حقوقها كاملة دون وصاية، واتركوا الفكر لكم لنرى ماذا ستفعلون؟ لقد عجز الرجل في مجتمعنا عن اجتراح حلول للمعضلات التي يعانيها المجتمع على كل الأصعدة؟ أما معضلات المرأة وقضاياها المؤلمة في البيوت وفي المحاكم وفي الشارع، فالرجل لم يبادر إلى حلها، بل هو واحد من اثنين إما متسبب فيها، أو منظر يتكلم أكثر مما يفعل، ولا استثني أحدًا فكل الأطياف من ليبرالية وإسلاموية، أكاديمية ومثقفة، وحتى المسؤولة، مقصرة لا تحسن سوى الكلام الذي مللناه، ولهذا تجد صوت المرأة في السنوات الخمس الأخيرة هو الأعلى والأصدق والأكثر بروزًا في الساحة؛ لأن اليأس تلبسها فآمنت أنه لا يحك الجلد سوى الظفر. ثم إن الأزمة التي لا تقتلها، تنعشها، تحفزها، تقويها. من جانب آخر ترى حصة ال الشيخ إن السؤال الذي طرح عليها ذو شقين، وتوضح ذلك قائلة: أولهما يتناول شأن الواقع الفكري والثقافي، والثاني يتعلق بتخصيص الفكر الأنثوي إن جازت التسمية بقلة الإنتاج أو انعدامه، ويبقى الجواب يربط طرفي السؤال بعضهما ببعض، ليكون تساؤلا أقرب لمحاولة حل الإشكالية أو البحث في عمقها، وذلك بعد إزاحة التقسيم الفكري ونتاجه على أساس جندري، فما دام هناك واقع حي وإنسان يحيا ويحس ويسأل ويشاكس ويؤمن ويكفر، ويتفاعل ويتساءل فلابد ان يوجد مفكر، رجل وامرأة. إبراهيم البليهي: عَدَد المفكرين في أي مجتمع محدود جدًا في كل العصور وعند جميع الأمم.. فقليل منهم يكفي والسؤال هو متطلبات ظهور المفكر لا وجوده، وفرق بين الظهور وإثباته، وبين الوجود وحقيققته، فالوضع الفكري كرصد كثافة وإنتاج، يتطلب أجواء منفتحة وحرة لا تعترف بالقيود ولا بالسقوف، لان الثقافة انبثاق وامتداد تكويني لا يتوقف مداه، وكلما كان اختراق الجذور للداخل أكبر يأتي اندفاع الأغصان للخارج أوسع وأشمل، وهو الدور الثقافي للمفكر الذي يغوص في الأعماق ليشكل الامتداد ويوسع الآفاق، وينوع الرؤى ويعيد تشكيل التناول، وينقد الوضع ويطرح الحلول ويقارن الأوضاع، ويفهم التأثير ويستشرف آفاق المستقبل من أحلام الواقع، ويرسم الخطط بخطوات الواثق. لذا فانشغال المثقف بقضاياه الإنسانية لا يعتبر بعدا عن الثقافة بل سببا للخوض في الموروث والجذور، لفهم الامتدادات الحاضرة للواقع المعاش، وطرح الأسئلة الباحثة في الأغوار وجذور الأعماق خاصة في الأماكن المظلمة والمواقع المسكوت عنها أو المغيبة في غيابات الجب المنسية، بأسلوب رصين وجهد متواصل في جوهر المشاكل وطرائق أبعادها الفلسفية، يتحمل المثقف في ذلك مسؤوليته ويقوم بدوره كشريك أساسي في قراءة الواقع واقتراح الحلول وكشف لذهنية البنى الفكرية والوصول لأدوات مفهومية أجد وأرسخ وأقوى وأعمق، فالثقافة ليست استعراضا ولا ديكورا، إنما رحلة اكتشاف دائم وبحث مستمر وطريقة لفهم الواقع وتوقع المستقبل الأفضل. حسناء القنيعير: وهل لدينا مفكر سعودي؟ وهل يوجد رجل واحد فقط لديه مشروع فكري أو تنويري ؟ ولك أن تتخيل دور المفكر في واقع ثقافي يعتمد موروثا رادعا للتفكير وقيدا على مغامرة الإبداع، وموقفاً تبريريا يماشي القائم وينسج معه، وموقفاً متشدداً متطرفاً يضطر للكذب على الدين، تبريراً لفرض رأي أرثوذوكسي وحيد، عندها ستدرك السبب في ندرة المفكرين ومن باب أولى المفكرات، حيث الآفاق الحرة مغلقة بالضبة والمفتاح أمامها، ولكن وبالرغم من أن التفكير قد لا يكون معلناً إلا أنه لا يعني عدم حضوره، ولكنه حضورٌ يشبه الرمز في قصة أو اللغز في رواية الواقع، أو قدحٍ ميتافيزيقي على مسرح الحياة، لكنه لابد - يوما - أن سيكون ويوجد، كحقيقة واضحة وشاهد حي.. ولأن المفكر والمبدع يحتاج إلى جو ديمقراطي وعقلاني بعيد عن الإرهاب ومصادرة الرأي الآخر، وبعيد عن سيف التحريم والتكفير، فإنه ومتى توفر له هذا الجو فإنه يتحتم عليه معاودة طرح الأسئلة الأساسية وتجاوز العادي والمألوف من الأشياء، وصولا إلى عالم الحرية، كما فعل مثقفو عصر النهضة، مع إضافة الأسئلة المستجدة، لكي تمتلئ بالنسغ الحي والإضافات الخلاقة التي يفرزها الواقع والتغيرات التي لا تتوقف لحظة واحدة، لذا فعلانية وجود المفكر تحتاج إلى جو يحرس الحرية، ويسهر على راحة المفكرين الأحرار. حصة آل الشيخ: التفكير قد لا يكون معلناً.. وربما حضور يشبه الرمز في قصة أو اللغز في رواية الواقع أنا واثقة بوجود المفكرين والمفكرات، لكنهم يعيشون أجواء المواجهة الشرسة والناشطة القلقة مع فكر معاد للثقافة الحرة والإبداع، لكنهم سيفرضون وجودهم بعد غربلة الواقع للأفضل والأجمل والأميز والأحدث والأصدق والأجرأ، والحياة بإنسانها ستستقبلهم بحضنها الفسيح. وترى الدكتورة أميرة كشغري إن العلاقة بين المرأة والكتابة الفكرية الفلسفية يجب أن ينظر إليها من زاويتين طبعتا تطور المجتمعات على مر العصور، ظروف المجتمع وواقعه الثقافي الفكري ثم موقع المرأة في هذا المجتمع بشكل عام وقدرتها على تجاوز القيود السوسيوثقافية المفروضة عليها والخروج من دائرة الانشغال المعيشي اليومي إلى أفق الانشغال الفكري الفلسفي. وتوضح قائلة: بداية لا بد أن نعترف بأن الفلسفة على مر التاريخ وفي كل المجتمعات كانت تمثل مجالاً نخبوياً، فالانشغال الفلسفي كان يتطلب، إلى جانب سعة المعرفة، وقتاً كافياً للانشغال الفلسفي، لذا كان النصيب الأوفر من حظ الرجل، حيث لم تحظ النساء بالتعليم أو الوقت الكافي للدخول في مجال الحياة المعرفية العقلية، ومع ذلك يمكن تعداد عدد من النساء الفلاسفة (أو على أقل تقدير مفكرات) في الغرب مثل سيمون دي بوفوار، ومجتمعنا بشكل عام ليس مجتمعاً قائماً على التفكير النقدي وبناء المفاهيم، ولذلك فهو لا يؤسس لعملية بناء الإنسان المفكر، الفلسفة إن لم تكن مجالاً محظوراً فهي ضرب من الترف والسفسطة على أحسن تقدير، المدارس لا تشجع على التفكير النقدي ولا تبني المنهج العلمي في الحكم على الأشياء، كما أن وسائل الإعلام لدينا لا تسهم في تنمية الاتجاهات النقدية الخلاقة لدى الفرد. فالفلسفة هي منظومة من الأفكار والمفاهيم التي تفسر العالم وتقترح رؤية جديدة للعلاقة بين الإنسان والثقافة والمجتمع. بناء على هذا التعريف للفلسفة ليس لدينا فلاسفة من الرجال ولا النساء. أميرة كشغري: عزوف المرأة عن الفلسفة هو نتاج طبيعي لظروف اجتماعية ثقافية تعيشها المرأة لقد كرس المنظور الذكوري للمرأة في المجتمعات الربط بين المرأة والجسد، مقابل الرجل والعقل. ولذلك أصبحت المرأة ذاتها وبطريقة لا شعورية تمارس سلوكاً يرسخ من تلك النظرة لذاتها فهي الجسد الجميل والشيء الذي يعمل على كل ما من شأنه إرضاء الذكر، مما جعل المرأة تعلي من مكانة الجسدي على الفكري حسب مواصفات العرض والطلب التي تعمل وفقاً لها. وكنتيجة حتمية لهذه النظرة أصبحت المرأة بعيدة عن أمور الفكر وتعقيداتها لصيقة بالحسي والجسدي المتوقع منها. إذن فموضوع الفلسفة وعزوف المرأة عنها هو نتاج طبيعي لظروف اجتماعية ثقافية تعيشها المرأة. وهذه الظروف تجعلنا ندرك أن موقع المرأة الاجتماعي ومستواها الثقافي يعتبر مرآة تنعكس فيها مواصفات هذا المجتمع وشروطه الحياتية. إن الدخول إلى عالم الفلسفة يمثل المرتبة العليا في هرم الاحتياجات الإنسانية حيث تتعلق بطرح قضايا لا يمكن أن يتعرض لها إلا من انتهى من إشباع الحاجات الأساسية، كما يقول عالم النفس ماسلو. ومن الواضح أن المرأة، بشكل عام والسعودية بشكل خاص، مازالت تصارع في أسفل هرم الحاجات الإنسانية الأساسية، فكيف لها والحال كذلك أن تخوض ميداناً يأتي في المرتبة العليا من مستويات الفكر؟ مازالت المرأة تناضل من أجل كسب قضايا وحقوق أساسية مثل حقها في أن تكون إنسانا كامل الأهلية يملك القدرة على اتخاذ قرارات حياته المصيرية الأساسية في الزواج والطلاق وحضانة الأطفال والعمل والحركة والسفر. وليس لنا أن نتوقع منها أن تخوض مجال الكتابة الفلسفية وهي لم تتجاوز الأساسيات في الحياة بعد.