بصيرة الداود يقول عَالِم الاجتماع إدوارد شيلز: «لقد بحث المفكرون كل المواضيع في الدنيا وطرقوها، ولكنهم نسوا أنفسهم فقصروا في هذا الباب». معروف أن المفكر المثقف بشكل عام مرتبط بمجتمعه من خلال دوره الثقافي وليس من خلال روابطه الشخصية أو مع ذوي القربى، خصوصاً أن دوره كمثقف يتميز بالحيوية الاجتماعية والوظيفة الفكرية بغض النظر عن موقعه على سلم المثقفين. لكن ما تشهده الساحة الثقافية السعودية في هذه المرحلة بشكل عام لا يتعدى - مع الأسف - المنافسة على تقديم المحاولات الفكرية بين المثقفين السعوديين من أجل الحصول على مكانة اجتماعية مرموقة ذات اعتبار ثقافي عالٍ وواسع الصيت، ليس داخل جماعة المثقفين فحسب وإنما في المجتمع السعودي بشكل خاص والعربي بشكل عام، ومحاولة احتلال موقع اجتماعي متقدم في النسق الثقافي متجاهلين الطموح الذي لا يمكن تحقيقه بسهولة دون الخوض في صراعات فكرية وتقديم عطاءات ثقافية عدة ذات مقومات رصينة، تخدم متطلبات فكرية واجتماعية متجددة ومتبدلة بحسب تطورات المجتمع الدائمة، بحيث تعكس حالة القلق على طموحاتهم التواقة دائماً للأفضل وبشكل مستمر. ناقشت في مقالات سابقة وبعض البحوث العلمية الدور الضيق الذي يقدمه المفكر المثقف الليبرالي تحديداً، حيث لا يتعدى من الناحية التاريخية تقديمه لأطروحات نظرية عن البناء الاجتماعي، ربما بسبب استقراره الاجتماعي وانتمائه البرجوازي الليبرالي، الذي كفل له معالجة الأمراض الاجتماعية بشكلها الظاهري المجرد لهيكل المجتمع من دون محاولة الوصول إلى وجدان الفرد وذاته الداخلية، ليحقق مكانته ويغرس أطروحاته الفكرية فيها، ولهذا نراه يلجأ إلى الثقافة الغربية تحت مظلة الدعوة إلى الحداثة والعصرنة، فيرفض الماضوية ويكتب بمنهجية صافية تتناول المواضيع الإنسانية بمختلف مجالاتها في الوقت نفسه الذي ينسى فيه بأن لجوءه إلى الثقافة الغربية فقط أصبح بمثابة المقر الآمن والمفيد له، بحيث يجعله، وربما من دون وعي منه، يقصر في خدمة مجتمعه ويبعده عن تفاعلاته الثقافية التي من المفترض أن تتفاعل في الغالب مع عطاء زملائه المثقفين بمختلف أيديولوجياتهم الأخرى من أبناء المجتمع المحلي في عالمنا العربي بشكل عام. نعم: أتفق مع المثقف الليبرالي الذي يجد في الثقافة الغربية وسيلة للهروب من التخلف إلى العصر، ومن الواقع المتحضر إلى عالم متحضر مطمئن ومتماسك، لكني أختلف معه في اللجوء الواعي أو غير الواعي إلى الثقافة الغربية فقط بطريقة يلتفت من خلالها إلى خشبة الخلاص الوحيدة لديه، وإلى آخر المتنفسات الممكنة للنفاذ إلى الحضارة البشرية المتقدمة بسرعة من أجل تحقيق الهوية الفكرية والإنسانية من دون أن يتفاعل ويندمج مع فكر وثقافة وحضارة مجتمعه العربي، ويتلاءم معها بشكل يبعده عن المنازعة والرفض ويحقق له مفهوم الاندفاع في بنية المجتمع من خلال دوره المباشر في إحداث التنمية الفعلية للمجتمع الذي يعيش في كنفه ويتمكن من إيصال ثقافته كممارسة، بحيث تؤدي جانباً مهماً ومباشراً في تلك التنمية، متجنباً قدر الإمكان تناول الأمراض «الباثولوجية» بشكلها العام، الذي يطرح من خلالها عادة تعاميم غير دقيقة وغير موضوعية في بعض الأحيان، الأمر الذي يبعده كثيراً عن التوغل في صلب الحقائق، ويجعل منه دون أن يدرك تابعاً ومنقاداً لقوى غير ثقافية أو معرفية، بحيث نراه ونسمعه ينتقدها هو بنفسه في الغالب، وبالتالي فإن ذلك يجعل منه مثقفاً، ولكن في دائرة المثقفين غير اللامعين أو المبدعين في الثقافة والمعرفة العربية، لذلك أرى أن مثل هذا الدور للمثقف الليبرالي العربي قد يذهب به لأن يكون على هامش الثقافة العربية وليس في جوهرها، كونه - من وجهة نظري - يعيش على هامش ثقافتين عربية وأجنبية، بحيث تجعل دوره ضعيفاً في عطائه للثقافة العربية، وباهتاً بين المثقفين العرب. كما أن المعوقات التي تصاغ مواقفها ضد المثقف الليبرالي تحديداً، بحيث لا تمكنه من اختراقها أو تجاوزها، وتشكل له رادعاً داخلياً يقنن دوره الثقافي ويجعل من ذاته الثقافية أمراً ثابتاً أمام الأنا الاجتماعية، بدءاً من الأسرة المحافظة تقليدياً، ومروراً بالمدرسة وما تقدمه من تعليم محافظ والأعراف المتشددة، والنظم الإعلامية والرقابية والسياسية الصادرة والمقننة، فهذه جميعاً هي معوقات قد تشير بأصابع الاتهام إلى المثقف الليبرالي «بالأنانية»، وبأنه يركز على العالم والتاريخ من حول نفسه ولا يرى العالم إلا من خلال طرف أنفه. فمثلاً: لو جربنا أن نطلب من أي مبدع مثقف أن يتحدث عن نفسه، فسيكون جوابه بالتأكيد الصمت والحيرة بسبب افتقاره إلى الحرية الداخلية التي تفقده الوصول إلى علاقة تعبيرية صحيحة مع « جوانيته» المغيبة، التي أرى أنها المسؤولة بشكل مباشر عن جزء كبير من تدهور الإبداع الفكري والثقافي في بلادنا بشكل خاص والعالم العربي بشكل عام. لا بد أن يدرك المثقف الليبرالي بأن الوقت قد حان لكسر قيود الخوف التي تبرز ذاته لمجتمعه بأسلوب ثقافي يعلن من خلاله عن نشأة تصور جديد للإنسانية والتاريخ في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ العرب المعاصر، كما أن عليه أن يدرك بأن التقدم نحو الحرية المسؤولة لن يتحقق إلا بقبول التضحية من أجل العدل، وليس بقبول العدل المتحصن بالعقائد الدينية والأنظمة الأبوية فقط، التي من المؤكد أنها تعود بالمجتمعات إلى الوراء دائماً. لقد أصبحت المرحلة التاريخية المعاصرة - بحسب تصوري - مناسبة جداً لمحو كل المقولات التي كانت تشير إلى عدم إمكان التقاء التطلعات الغربية والشرقية كونهما من طبيعتين مختلفتين، بل إن الواقع الذي بدأ يفرض نفسه على الجميع يلزم نخب المثقفين العرب، خصوصاً فئة الليبراليين منهم، العمل على تحرير الفكر والثقافة العربية ودمجها مع مختلف الثقافات، خصوصاً الغربية منها، من خلال خلق أساليب وأنماط إبداعية مسؤولة تترجم إلى الواقع معنى أن الثقافة بشكل عام تتلاعب بالمسافات، ولا تخضع للتحديدات الجغرافية، على اعتبار أنها تتألف من عناصر كثيرة، قسم منها محلي أو قومي، والآخر عالمي أو أممي. * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر [email protected]