يجتمع هذا الأسبوع في الباحة السرديون والنقاد؛ للاحتفاء بالقصة القصيرة في بلادنا، في تظاهرة أدبية أنيقة ترفل بمظاهر الإبداع الباذخ لأعلام هذا الفن الجميل، الذي جمع الكثير من محاسن الأدب، فاستعار من الشعر خياله، ومن النثر بلاغته، ومن النقد لمساته الحانية في التّماس مع الواقع، ومن المسرح حوار أبطاله، ومن التاريخ ملامح من ماضيه أو حاضره، ومن الفلسفة عمقها المتجلي في تكثيف الإضاءة المسلطة على زوايا معتمة من الحياة، ليكون أبا الفنون دون منازع، وهي أبوة لم ترض بعض النقاد، فأعلنوا عن موت القصة القصيرة، أو قالوا إنها في النزع الأخير بعد طغيان الرواية، وتشعب مساراتها، ورحابة صدرها لاستيعاب كل التفاصيل لحد الترهل في حالات كثيرة، لكن هذا الحكم ضد القصة القصيرة لم يلق آذانا صاغية من كتابها وقرائها والمحتفين بها والحريصين من النقاد على تأصيل قيمها الفنية. هذا التجمع المبارك الذي يتم احتضانه في رحاب نادي الباحة الأدبي يشكل انعطافة تاريخية في مسيرة هذا الفن الجميل في وطننا العربي، بعد أن كاد الركود أن يسيطر على القصة القصيرة نتيجة انصراف كتابها المعروفين إلى فنون أدبية أخرى تلقى رواجا أكثر في سوق الأدب، وهو موقف يعبر عن نزعة تجارية مخاتلة، ينحسر عنها طرْف الإبداع، وينحرف بها عن طريق تأصيل مفاهيم تجريبية جديدة، تؤكد قابليتها للتطور. وقد جاء نادي الباحة ليعيد للقصة القصيرة هيبتها، بعد بعض المهرجانات والندوات التي لم تكن بهذا المستوى من الجهد والاهتمام، وكأنما أتى هذا المهرجان ليتوج الجهود السابقة في خدمة القصة القصيرة، ويضخ في شرايينها دماء التجديد والتفوق والبروز. نادي الباحة الأدبي يضيف هذا الإنجاز إلى إنجازاته السابقة من المهرجانات الأدبية التي شارك فيها أدباء من العالم العربي، ليرسخ مبدأ التواصل بين أدباء العربية على اختلاف أقطارهم وانتماءاتهم، وليقدم صورة رائعة عن المنجز الثقافي الذي تقوم به أنديتنا الأدبية وهي تعيش عهدا من أزهى عهودها، ويتجلى ذلك ليس في أدائها الثقافي فقط، ولكن أيضا في جهود المسئولين فيها بوضع البنية الأساسية للثقافة، من خلال المباني المؤهلة لاستيعاب الأنشطة الثقافية المتنوعة، والاستغناء عن المباني المستأجرة التي رغم عدم صلاحيتها فإنها تستنزف جزءا غير يسير من ميزانية النادي المحدودة، وهي ميزانية لم تتحرك خطوة واحدة إلى الأمام منذ إنشائها. كلمة شكر لا بد منها لرئيس وأعضاء مجلس إدارة نادي الباحة الأدبي؛ للفتة الكريمة بتكريم رواد القصة القصيرة في بلادنا، بعد أن تجاهلتهم المؤسسات الثقافية طوال الفترة الماضية، وهو تجاهل لا يمكن تفسير أسبابه، مع الحضور الدائم للقصة القصيرة في إنتاجنا السردي، حيث لا تزال نخبة من الشباب تواصل مفاجآتها الجميلة بالعديد من الإصدارات القصصية الجديرة بعناية النقاد، وهذا لا يعني أن كل التجارب في هذا المجال ناجحة، لكنه يعني أهمية العناية بالناجح منها وهو كثير، في ظل الإيقاع السريع لحركة الإصدارات سواء في الأندية الأدبية أو غيرها، كما يعني في الوقت نفسه، أن كتابنا السرديين ليسوا بمعزل عن التجارب الجديدة في تقنيات كتابة القصة في أماكن أخرى من العالم، وهي تقنيات تتقدم مع الزمن، لأن القصة القصيرة لا يمكن أن تنسلخ من الواقع زمانا ومكانا، وانحيازها لهذا الواقع سمة لا يمكن أن تتخلى عنه ما دامت تحمل عنوان (قصة قصيرة) ولا عبرة لمن يحاول التمرد على هذا العنوان، باسم التجريب، حتى أصبحنا نقرأ باسم القصة ما لا علاقة له بالقصة، مما هو اقرب إلى الخواطر الذاتية، التي تعتبر كتابتها فنا قائما بذاته لا علاقة له بكتابة القصة القصيرة بمفهومها الفني القار في ذهن المتلقي. مرة أخرى شكراً لرئيس وأعضاء مجلس إدارة النادي الأدبي في الباحة؛ لهذا الجهد المشكور، وهكذا يكون الجهد الأدبي المتميز وإلا فلا.