القراءة وسيلة للوصول إلى المعارف والتصورات والتصديقات بأنواعها، وطريق لتفتيق الفكر والفهم وتنوع المعرفة وزيادتها، إن القراءة وسيلة وما وراء القراءة من التفكر والاستنتاج والفهم وتفتيق الذهن هو المقصود الأسمى من القراءة. فليس مهما قدر ما نقرأه، كما أنه ليس صوابا أن نبقى نردد الشعارات حول أهمية القراءة، أو أن نتفاخر بالماضي العامر بالمكتبات والكتب والكتاب، إن ذلك كله يشعر بأننا ما زلنا نعوض عن ثقافتنا المفرطة في الشفهية بالنظر إلى تمجيد القراءة على أنها المخلص لمشاكلنا وعلى أننا أمة اقرأ فقط دون تفكر وتدبر وفهم ومناقشة، إن ذلك التمجيد المطلق للقراءة شماعة تشبه نظرية المؤامرة لكن بشكل آخر، فكما أن نظرية المؤامرة يعتبرها كثيرون السبب الرئيس لكل مشاكلنا واخفاقاتنا، كذلك هناك الكثير يرددون بأن القراءة هي الدواء السحري الشافي لكل أمراضنا ومشاكلنا. فالطرح النظري الذي نلحظه من حين لآخر حول تمجيد القراءة المطلقة لا يختلف عن الواقع العملي الذي نعيشه بل هو أكثر بؤسا، وما طرح قريبا كمسابقة للقراءة مع يتمها لم يتطرق فيه لنوعية ما يقرأ أو نوعية القراءة لتعود على الناشئة بالفائدة الحقيقية ومع ذلك تعتبر خطوة جيدة تستحق الشكر لدولة الامارات. إن ذلك الضعف الاستراتيجي في تربية الناشئة يجب تصحيحه، فكم نجد من القراء الموصوفين بالنهم، والذين يقرؤون كتبا جيدة، وربما يدرسون في بيئات متميزة، إلا أنهم رغم ذلك لا يلحظ عليهم فرق كبير على مدى الزمن، ولعل قائلا يقول إن متعة القراءة تكفينا، وان صيانة القراءة للمرء عن نشاطات غير نافعة أو مضرة مكسب يكفينا، وهذا في الحقيقة يدلنا بصورة دقيقة على مكمن الخلل حتى فيمن يقرأ كثيرا ويقرأ كتبا جيدة ويدرس في بيئات متميزة، إن حال من رضي من القراءة بمتعتها أو الانشغال بها عما لا ينفع كحال من رضي بالفتات وترك الوليمة. إن القراءة خطوة نحو التطور، وهي تشبه خشبة القفز التي يستعين بها من يسبح ليقفز في مسبح عميق، فمن يقف على خشبة القفز بزي السباحة ويظن أنه صار سباحا ماهرا فهو واهم، كما أن من يقفز من غير خشبة القفز، قد يفقد الاتجاه والارتفاع الصحيحين، بل قد يؤذي نفسه. والواجب أن يصحب القراءة التفكر، ومعنى هذا أن علينا أن نقرأ قليلا، ونفكّر كثيرا وليس العكس، أما كثرة القراءة وحشو الرأس بما قال الآخرون دون تحقق صحة أو تدبر دلالة فضار، ومن الضروري أن نتفكر لنفهم ما نقرأ ولنصل للحقيقة ولنصحح واقعنا، هذا ما يجعل القراءة النقدية العقلانية ضرورة ملحة. أما من يقرأ قراءة متلبسة بروح التسليم بصحة كل ما بين دفتي ما يقرأ على أنه حق يجب اعتناقه دون تبصر وتفكر فلن يستفيد كثيرا بل سيكون ضحية ذلك التسليم الأعمى. إن علينا أن نقرأ مع تفكر وتدبر وتأمل وفهم لنتحقق من صحة ما نقرأ ولنتمسك بالصحيح ونصحح الخطأ ولنكون رأيا خاصا بنا فيما نقرأ، ولذلك لا بأس بأن نتجادل بأدب مع كاتب الكتاب، وأن نضع الملاحظات على الهوامش، وأن نتحقق من صحة استدلالاته وصواب رأيه وخطئه لتكون قراءتنا نافعة مفيدة فكرا وعملا ولتنتج لنا من الاستنارة أضعافا مضاعفة من الجهد المبذول في القراءة العمياء. إن القراءة مهمة لكنها مع التوقف عن التفكر فيما نقرأ أو مع افتراض هيبة زائدة للمؤلف أو الكتاب تعني أننا إزاء مشروع تخريج فوج من الببغاوات، وأننا أمام أمر خطير هو أننا نقرأ قراءة عاطفية استلابية أو انتقامية. ولذلك نجد البعض قد يكره كاتبا، فيفجر في الخصومة معه، فلا يقرأ له أبدا، أو يقرأ له ليتصيد الأخطاء ويصفي حساباته العاطفية معه، كما أن هناك من يقرأ لكاتب يحبه، فيكون مستعدا للذوبان في كل ما يقوله حقا أو باطلا.