رَوَّجَ كثيرون لفكرة، مفادها: أن ثورة الاتصالات، وتعدد وسائل الإعلام، وانفجار القنوات الفضائية، ونشوء نوع جديد من وسائل الإعلام عبر الشبكات الاجتماعية على الإنترنت؛ ستجعل اخفاء الحقيقة أمراً في غاية الصعوبة، وستُقَلِّص إمكانية تضليل المتلقي. لكن ما حصل هو العكس تماماً، فقد زاد التطور التكنولوجي، وتعدد وسائل الإعلام وتشعبها، من بث الأكاذيب وتضليل الناس، وأصبح الوصول إلى الحقيقة أصعب. إذ أن الجمهور لا يشكو الآن من شح المعلومات، بل من تدفقها الكثيف والمتواصل، وانتشار الأخبار المتضاربة، وتكاثر الشائعات بفعل كثرة القنوات الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وكل هذا يجعل التدقيق في الأخبار المتداولة، والتشكيك في صحة المعلومات، وطرح الأسئلة حولها، ضرورة لأي باحث عن الحقائق. لوسائل التواصل الاجتماعي مزايا عديدة، لكن أحد أبرز عيوبها أنها باتت وسيلة لنشر الشائعات بكثافة، ولنأخذ تطبيق "واتساب" الشهير مثالاً، فقد أصبح ساحة لانتشار كافة أنواع الشائعات، بعضها يتخصص في تشويه أشخاص، وأخرى تبث أخباراً كاذبة في الشؤون المحلية والإقليمية، وثالثة تُحذر فئات اجتماعية من فئات أخرى بناء على قصص مُخترَعة. مستوى التجاوب مع هذه الأنواع من الشائعات مخيف، ويدل على قابلية عالية لتصديق كل شيء، دون أدنى جهد في التحري والتدقيق، وقد تصل الأمور إلى نشر الناس لشائعات تضرهم من حيث لا ينتبهون، فمثلاً تنتشر في هذه الفترة شائعات كثيرة حول أعمال إجرامية لتنظيم "داعش"، تُسهم في تخويف الناس، وتخدم بشكل غير مقصود أهداف التنظيم في بث الرعب، وإشاعة الخوف في النفوس. لا يقتصر الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل: "تويتر"، "فيسبوك"، بل يتعداه إلى وسائل الإعلام التقليدية، والقنوات الفضائية الكبيرة والمُشاهدة، والتي لا تتورع عن الضرب عرض الحائط، بأصول المهنية والموضوعية، وبث أخبار وشائعات كاذبة، تتناسب مع أجندات محددة، إما بنسبة بعض الأخبار ل "شهود عيان"، أو حتى ببث مقاطع فيديو مفبركة، والضخ الإعلامي المستمر لمثل هذه الأخبار والمقاطع، على طريقة جوزف غوبلز، وزير الدعاية النازي: "أكذب ثم أكذب، فلا بد أن يصدق الناس في النهاية"، فالتكرار وسيلة للرواج، وبيع الكذب على الجمهور. يقع كثير من الناس ضحية الشائعات والأكاذيب، ويتحول إلى جزء من آلة الترويج الضخمة لها، عبر تفاعله معها وبثها في وسائل التواصل الاجتماعي، والأمر يصل إلى بعض المثقفين والنخب، الذين يصبحون مروجين للشائعات، والأسوأ أنهم يبنون تحليلاتهم على أخبار أقل ما يقال عنها إنها "كاريكاتورية" الطابع، ومن المضحك تصديقها، وقد يتضح لاحقاً أن هذه الأخبار كاذبة، لكنهم لا يخجلون من تكرار الأمر، إما جهلاً بأهمية التدقيق فيما يُنشر، أو عمداً؛ لأن هذه الأخبار توافق هواهم، لكن من يشعر بالمسؤولية تجاه الجمهور، ويرفض تضليل نفسه وتضليلهم، لا بد أن يكون فاحصاً لكل ما يُنشر، ودقيقاً في تتبع مصدر المعلومة، وطرح الأسئلة حولها.