في مقالةٍ لي نُشرت في صحيفة اليوم في 22 شعبان 1436ه ، الموافق 9 يونيو 2015م، تحت عنوان: "اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، هل تسعى أمريكا لعزل الأمة العربية عن التجارة الدولية؟" تحدثت عن هذه الاتفاقية وعن العديد من المحاور والأهداف التي تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية لتحقيقها، وقبل بضعة أيام وصل أطراف الشراكة إلى اتفاقية وتم التوقيع عليها. وأشرت إلى أنه رغم أن الهدف الرئيس لهذه الاتفاقية - كما يبدو - هو كبح جماح الاقتصاد الصيني والحد من تسارع وتيرة نموه، لأنه أصبح يمثل خطراً داهماً على الاقتصاد الأمريكي، ومنافساً حقيقياً له، يسعى الصينيون جاهدين لقلب معايير وترتيب المنظومة الاقتصادية العالمية. إلا أن أحد الأهداف التي يبدو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسعى لإدراكها من خلال تفعيل الاتفاق هو عزل الأمة العربية، بل وجل الأمة الإسلامية، عن حركة التجارة الدولية، حتى تتمكن من بسط نفوذها على الأسواق العالمية، ومنها بالطبع الأسواق العربية والإسلامية، والتحكم في زمامها. وفي هذا الصدد، أشارت التقارير والدراسات المعدة في هذا الخصوص إلى أن الاقتصاد الصيني قد يتمكن، في السنوات القليلة المقبلة، من انتزاع مركز الصدارة الاقتصادية من الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ صاحبة أكبر اقتصادٍ عالمي في الوقت الراهن. ولهذا السبب المهم، وغيره من الأسباب الأخرى التي قد تخفى على الكثيرين، تمارس الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاؤها جهوداً مكثفة وضغوطاً هائلة تجاه الصين، ولا تكل عزيمتها عن استخدام العديد من الأساليب والطرق المختلفة، التي من بينها اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وغيرها من الأساليب الأخرى، التي سنتطرق إليها بشيء من التفصيل في هذه المقالة. وفي الاتجاه الآخر، تكثف الصين جهودها لمواجهة أية مخاطر أو عوائق يمكن أن تلحق الضرر باقتصادها، أو تقف حجر عثرة أمام نهضتها وتقدمها السريع نحو أن تكون في طليعة الدول المتقدمة، أو تحول دون ما تتطلع إليه. وأحدث مثال لهذا هو قيام الصين بضخ مئات المليارات من الدولارات في سوق الأسهم الصيني الذي تعرض لضربة قوية قبل أكثر من شهرين، لتقليل حجم الضرر الذي لحق بسوق المال الصيني. ونتيجة لهذا التخوف بادرت الصين بإعادة إحياء "طريق الحرير" كخطوة فاعلة في سبيل حماية اقتصادها من أية ضربات اقتصادية يمكن أن توجه إليها من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها، أو أية دولة أخرى من جيرانها، أو من الدول الأخرى التي لا ترغب في ظهور الصين كقوة اقتصادية كبرى تتبوأ مركز الصدارة الاقتصادية في العالم. وللتذكير فطريق الحرير هي طريق تجاريةٌ قديمة تتكون من مسارين؛ بريٍّ وبحريٍّ، تبدأ من الصين شرقاً، لتنتهي في أوروبا غربا، مروراً بجميع الدول الواقعة بين هاتين النقطتين. وقد لعبت المنطقة التي تُعرف اليوم باسم الشرق الأوسط، التي تشمل جزيرة العرب، وبلاد فارس، ومنطقة الهلال الخصيب، وآسيا الصغرى، دوراً جوهرياً في النشاطات التجارية التي كانت هذه الطريق مساراً لها. ومع أن اسم "طريق الحرير" لم يُطلق على هذه الطريق إلا في عام 1877م، عندما أطلقه عليها العالم الجغرافي الألماني فريديناند فون ريتشتهوفن، إلا أن التجارة على اختلاف بضائعها ومدارها كانت مستمرة ونشطةً على هذه الطريق لمدة 3000 سنة قبل هذا التاريخ. ورغم أن الناس كانوا يتاجرون ويتبادلون من خلال هذه الطريق الكثير من السلع، كالبهارات والعطور والأخشاب واللبان والبخور، إلا أن أشهر هذه السلع كان منتجات الحرير الصينية، التي لاقت رواجاً هائلاً في فترة ازدهار الحركة التجارية على هذه الطريق، التي انفردت الصين بإنتاجها واحتكارها، ونتيجة لذلك أطلق اسم هذا المنتج على هذه الطريق. ورغم أن طريق الحرير مثّل حلقة وصل بين الشرق والغرب لتسهيل حركة تبادل التجارة، إلا أنها لم تقتصر على تبادل السلع والمنتجات فحسب، بل كانت كذلك، وسيلة محورية وفي غاية الأهمية لالتقاء الثقافات والعلوم والمعارف بين العديد من الدول والبلدان الأمر الذي عزز التفاعل والتواصل فيما بينها. من هذا المنطلق، أدركت الصين مؤخراً ضرورة المبادرة إلى إحياء طريق الحرير الاقتصادية لتوطيد علاقات الصداقة القديمة مع البلدان الواقعة على هذه الطريق، وإعادتها إلى سابق عهدها، خاصة الدول العربية التي يُتوقع أن تطالها جملة التأثيرات السلبية التي يمكن أن تنجم عن دخول اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ حيز التنفيذ. وأرى أن إحياء طريق الحرير لن يؤدي إلى تنشيط وانعاش الاقتصاد فحسب، بل سيسهم - كذلك - في إحداث نقلة نوعية هائلة في المشهد الجيواقتصادي والجيوسياسي للشرق الأوسط، وهو الطريقة المثلى، من وجهة النظر الصينية، لمجابهة المحاولات الأمريكية الرامية إلى سيطرة الولاياتالمتحدة على زمام التجارة الدولية، من خلال إبرام الاتفاقات التجارية الدولية، التي تهدف إلى احتكار التجارة وبسط نفوذها وسطوتها عليها، للإبقاء على اقتصادها في مركز الصدارة، ولإقصاء الصين، أو أية دولة أخرى، عن قيادة المشهد الاقتصادي. والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان على الفور هو : هل تمتلك الصين حقاً المقومات التي تمكنها من انتزاع الصدارة الاقتصادية العالمية من الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ والجواب، قطعاً، هو : نعم!! فالصين تستمد قوتها الاقتصادية من تعدد مواردها الاقتصادية وتنوعها؛ فإنتاجها الزراعي يتسم بالجودة العالية والتنوع، وهي تحتل المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج القمح والأرز، وتحتل المرتبة الثانية عالمياً في إنتاج الذرة. وبالنسبة للقوة الصناعية، تتبوأ الصناعة الصينية مركز الصدارة في أهم الصناعات العالمية؛ كصناعة الصلب، وصناعة الأنسجة القطنية، وصناعة النسيج الاصطناعي. كما تتبوأ مراكز دون المركز الأول في بعض الصناعات المهمة التي باتت تلقى رواجاً مهماً كصناعة الألومنيوم، فضلاً عن الصناعات والمنتجات المتنوعة الأخرى التي لا حصر لها، التي غزت الأسواق العالمية بقوة كبيرة، وأظهرت تنافساً شديداً أمام منتجات الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلى جانب كل هذا تمثل القوة العسكرية الصينية عنصراً لا يستهان به، علاوة على امتلاكها قوة بشرية هائلة. ولو قارنا بين المقومات التي تمتلكها الولاياتالمتحدةالأمريكية وتلك التي تمتلكها الصين، التي أشرت إلى بعضها آنفاً، لوجدنا أن انفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية بموقع القطب الأوحد في العالم بلا منازع لا يمكن أن يُعزى إلى القوة العسكرية فقط، بل هو ثمرةٌ لمجموعةٍ متكاملةٍ من مقومات الدولة المادية والمعنوية. فإلى جانب القوة والمقومات العسكرية، هناك القوة والمقومات الاقتصادية الهائلة، التي جعلت منها صاحبة أكبر اقتصاد عالمي، إضافة إلى امتلاك المقومات المعرفية والثقافية والعلمية والتقنية، بالإضافة إلى البنية التشريعية والتنظيمية المتكاملة، حيث اجتمعت كل هذه المقومات كوحدة واحدة وجعلت منها القطب الاقتصادي الأوحد لعقود من الزمان بلا منازع أو منافس، هذه المقومات هي ذات المقومات التي تمتلك الصين غالبيتها. ومن المتوقع لها - في المستقبل القريب - أن تصل لمراحل أكثر تقدماً، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما على الأصعدة كافة، الأمر الذي ينبئ عن إمكان نشوء قطبية ثنائية، كما كان الأمر في الماضي بين الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو الأمر الذي تخشاه الأخيرة وتسعى لمجابهته والحيلولة دون حدوثه بكل السبل والوسائل. ومن الناحية الاقتصادية، تشير أحدث الدراسات إلى أن الناتج المحلي للصين سوف يصل إلى أكثر من 70 تريليون دولار بحلول عام 2050م، وهو ما يعادل ضعف حجم اقتصاد الولاياتالمتحدةالأمريكية، الذي يقدر ب «38» تريليون دولار. وبالتالي، فإن الصين - حسب هذه الإحصاءات - سوف تنفرد بالمركز الاقتصادي الأول عالمياً، وستصبح صاحبة أكبر اقتصاد عالمي، منتزعة بذلك مركز الصدارة من الولاياتالمتحدةالأمريكية بفارق شاسع. كما تشير ذات الدراسات إلى أن الاقتصاد الهندي، هو الآخر، يشهد حالاً من الانتعاش والازدهار والنمو المتزايد، وأن الناتج المحلي للاقتصاد الهندي قد يصل - في المستقبل القريب - إلى حوالي 37 تريليون دولار. وهذا يعني أن الاقتصاد الهندي سيكون، هو الآخر، منافساً شرساً للاقتصاد الأمريكي في المستقبل، حيث سيتنافس الطرفان على احتلال المركز الثاني في ترتيب الاقتصاد العالمي، خلف الصين. وفي هذا الخصوص، تعلق صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية على الأحداث والتطورات الاقتصادية التي يمكن أن يشهدها العالم في المستقبل، وعن مدى التنافس الاقتصادي الكبير بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوالصين قائلة : "إن تفوق الاقتصاد الصيني على نظيره الأمريكي سيؤدي إلى انقلابٍ كامل في المشهد الاقتصادي العالمي. كما سيغير أهمية كل دولة بالنسبة للحركة الاقتصادية في العالم"، مؤكدةً - بهذا - أن الصين باتت تقترب فعلاً من إقصاء الولاياتالمتحدةالأمريكية من صدارة الاقتصاد العالمي، وأنها، بالفعل، تمتلك جميع المقومات التي تؤهلها لذلك. وعلاوة على الأسباب التي ذكرناها آنفاً، التي ستمكن الاقتصاد الصيني من منافسة الاقتصاد الأمريكي على مركز الصدارة، لابد لنا من ألا نُغفل ذكر سببٍ آخر مهمٍ جداً هو الأزمة المالية العالمية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي في عام 2008م. فقد تمتعت الولاياتالمتحدةالأمريكية بأهمية اقتصادية كبيرةٍ وباتت صاحبة الهيمنة المطلقة على الاقتصاد العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتتمتع نسبياً، بذات الحجم المتعارف عليه قبل وقوع الأزمة المالية في عام 2008م، التي أنهت حقبة زمنية طويلة من التحكم والهيمنة المطلقة في الاقتصاد العالمي من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأدى ذلك إلى ظهور قوى منافسة للاقتصاد الأمريكي؛ من بينها الصينوالهند. إن بروز الصينوالهند كقوتين اقتصاديتين كبيرتين، ودخولهما طور التنافس على المراكز المتقدمة، يعني أن الدول الآسيوية في طريقها نحو الانخراط بقوة في منظومة الاقتصاد العالمية. ولا شك في أن من ضمن الأسباب التي أدت إلى بروز هذه القوى الاقتصادية، رغبة الصين، ومن ثم الهند وبعض الدول الآسيوية، في رفض السياسية الأمريكية التي تهيمن هيمنة مطلقة على اقتصاد العالم دون منازع أو منافس، وطموح هذه الدول إلى البروز والظهور كقوة مؤثرة في ميزان القوى الدولية من خلال النمو الاقتصادي القوي والمستدام. ولو سلطنا الضوء على الطموح الصيني غير المنقطع لوجدناه لا يتوقف عند حد منافسة الولاياتالمتحدةالأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، بل يتجاوزه إلى منافستها في كل أرجاء العالم. كما أن الطموح الصيني لا يتوقف عند حدود التنافس مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في الجوانب الاقتصادية فقط، بل تشير التقارير إلى أن الصين تعمل جاهدة لبناء أسطول بحري متكامل، في محاولة منها لإعادة هيكلة وتطوير قدراتها العسكرية، لمد نفوذها في البحار والمحيطات، وبهذا قد تصبح الصين أكبر منافس للولايات المتحدة في القدرات والإمكانات العسكرية أيضاً، وهو المجال الذي انفردت به الأخيرة لعقود طويلة. أعود الآن لأتساءل عن مدى إمكان قيام الصين بإحياء وإنعاش طريق الحرير من جديد، وبناء علاقات وأواصر تجارية موسعة تحسباً لأية خطوات سلبية أمريكية تجاه الاقتصاد الصيني. وفي هذا الشأن، أرى أن الواقع المعاصر، وما نشهده خلال الفترة الراهنة، يجيب عن هذا التساؤل المهم بقوة، مؤكداً عدم وجود صعوبة كبيرة في إعادة إحياء طريق الحرير تارة أخرى، وبصورة أكبر مما كانت عليه في الماضي، إذا تضافرت جهود الصين مع جهود الدول الواقعة على هذه الطريق، ومنها - بل من أهمها - الدول العربية، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، وتركزت هذه الجهود على استرجاع علاقات التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري القديمة، وتوطيد هذه العلاقات وترتيبها، خاصة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، فيما يبدو من تطور وتفاصيل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، قد عزلت الدول العربية وجل الدول الإسلامية عن التجارة الدولية من خلال هذه الاتفاقية إما بقصد أو بغير قصد. بهذا التعاون وتضافر الجهود، يمكن للصين أن تحقق جملة من الأهداف التي ترنو إليها من خلال الدعوة لإحياء طريق الحرير، وهو أمرٌ يمكن أن يتحقق، بيسر، على أرض الواقع لو كان وليداً للمنافسة المشروعة والشريفة بين الدول. لكن لما كان الأمر يتعلق بامتلاك زمام الهيمنة المطلقة على الاقتصاد العالمي، وبوجود وبقاء مصالح حيويةٍ للولايات المتحدةالأمريكية، فإنني لا أتوقع أن يسير الأمر على النحو الذي يبدو يسيراً وبسيطاً في مظهره ومعقداً في جوهره، لأن الأخيرة لن تقف مكتوفة الأيدي عاجزة عن وضع العراقيل في طريق النمو المتسارع للاقتصاد الصيني، الذي أصبح كابوساً مفزعاً يطارد ريادتها ويهدد مصالحها بشكلٍ لا يخفى على أحد. وإضافة إلى هذا، فإنني أتوقع حدوث مقاومة وتكاتفاً مضاداً من قبل الدول المجاورة للصين، لأن إحياء طريق الحرير سيشمل الطريق البرية والطريق البحرية، كما سبقت الإشارة لذلك. وفيما يتعلق بالطريق البحرية، هناك بعض التخوفات الجيوسياسية من قبل بعض الدول كسنغافورة وفيتنام واليابان وغيرهم، بسبب الموقف الصيني القوي من الهيمنة على بحر الصين الجنوبي. الذي يحتل موقعاً استراتيجياً مهماً، إذ تمر بمياهه ثلث الشحنات البحرية العالمية، علاوة على احتوائه على كميات هائلة من الزيت والغاز الطبيعي، وذلك وفقاً للعديد من الدراسات. هذه المزايا الجوهرية، جعلت منه مطمعاً ومحلاً للنزاع بين دول عدة؛ فالصين تعلن صراحةً ودائماً عن أحقيتها في السيادة على معظم أجزاء بحر الصين الجنوبي، وتنازعها هذا الحق كل من ماليزيا والفلبين وفيتنام وتايوان وسنغافورة وبروناي، كما أن هناك أزمة بين الصين والدول المجاورة بسبب بحر الصين الشرقي. وقد أدت هذه الأزمات إلى وجود حالٍ من الاضطراب بين الصين وبين هذه الدول، التي باتت تخشى من إمكان حدوث تدخل عسكري صيني في أي وقت، إذا أصرت الصين على موقفها وأحقيتها في بحري الصين الشرقي والجنوبي، وسعت لجعل هذا الموقف وهذه الأحقية واقعاً قائماً، واستعادة وإحياء الإمبراطورية الصينية العريقة، خاصة وأنها تمتلك 17 ميناء من أكبر الموانئ في العالم على هذين البحرين. وهكذا فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تترك هذه الأزمة، والحال المضطربة بين الصين وبعض دول الجوار، دون أن تطوعها لخدمة أهدافها وتحقيق مصالحها، المناهضة لتمدد واتساع الاقتصاد الصيني، حتى تمكنت من إقناع بعض هذه الدول بالدخول كطرف في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومن المتوقع أن تتكثف جهودها لإقناع بعض الدول الأخرى للانضمام إلى هذه الشراكة لتكوين تكتل اقتصادي كبيرٍ يرمي لمحاربة الاقتصاد الصيني. وهناك وسيلة أخرى، يمكن أن تلجأ لها الولاياتالمتحدةالأمريكية لمجابهة الاقتصاد الصيني ومحاربة أية محاولة للصين نحو تدعيم اقتصادها، وهي أن تتضافر الجهود الأمريكية مع جهود حلفائها لدعم الهند اقتصادياً. حيث أشرت آنفاً إلى أن الهند في طريقها للتنافس مع الولاياتالمتحدةالأمريكية على المركز الثاني عالمياً، في حال نجاح الصين في التربع على عرش الاقتصاد العالمي، وهذا الأمر قد يدفع الولاياتالمتحدةالأمريكية لاستخدام الهند كورقة ضغط لعرقلة ومحاربة تقدم الاقتصاد الصيني. وهنا، قد يقول البعض: إن هذه الخطوة، لو تمت بنجاح، ستعني اختفاء منافس وظهور منافس جديد قد يكون أقوى بكثير من المنافس الصيني وبالتالي فإن هذا الاحتمال سيجعل الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تُقدم على هذه المغامرة، التي تبدو كالسير في درب مظلم مفروشٍ بالأشواك، أو كالسير فوق رمال متحركة. وفي هذا، فإنني أعتقد أن الولاياتالمتحدةالأمريكية معروفةٌ بأنها تجيد التعامل مع الغير بما يخدم مصالحها ويحقق أهدافها، ولذلك فقد تلجأ لاتخاذ هذه الخطوة لإقصاء الصين من ساحة المنافسة، وبعدها تتفرغ للتعامل مع الهند كمنافسٍ اقتصادي، أو أنها قد تعمل على إنهاك قوى الطرفين من خلال تهيئة الأجواء لأن يصطدم أحدهما بالآخر، وهذا الاحتمال وارد ولا يُستبعد حدوثه. ومهما كانت تطورات هذه المنافسة الشرسة فإن الاحتمالات والتوقعات لما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب كثيرة ومتعددة، وربما حملت في طياتها تطوراتٍ خطيرة يمكن أن تؤدي للمساس بالعلاقات بين دولٍ عدة، وبروز قوى دولية واختفاء أخرى، وربما حدوث بعض الكوارث في حال عدم تكيف الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبعض الدول، مع التحولات الجذرية التي قد تنجم عن هذه المنافسة. ولو تطرقنا للموقف العربي من إعادة إحياء طريق الحرير، وإلى الموقف الصيني تجاه الدول العربية، لوجدنا أن العلاقات العربية الصينية علاقات جيدة تتسم بالتعاون والترابط والتبادل التجاري بصورة كبيرة، خاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي. ومن خلال طريق الحرير، ترغب الصين في بناء جسر جديد من الترابط الصيني العربي، لزيادة حجم الاستثمارات، وإنماء العلاقات التجارية الدولية، وفتح الأسواق، وإنعاش حركة التبادل الثقافي والفكري، وتسهيل التجارة الإلكترونية بين الطرفين. هذا التوجه الصيني تجاه الدول العربية توجه محمود، ويمكن له أن ينمو ويتطور ويزدهر، في المستقبل القريب، إذا ما تلاقت المصالح العربية مع المصالح الصينية، خاصةً إذا علمنا أن للصين علاقات متميزة مع غالبية الدول العربية، وإذا أخذنا، بعين الاعتبار، المخاطر التي أشرت إليها، التي يمكن أن تعصف بالاقتصاد الصيني جراء إبرام اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي ذات المخاطر التي تهدد اقتصاد ومصالح الدول العربية والإسلامية بعد إقصائها من هذه الاتفاقية. أما العلاقات الصينية السعودية، في هذا الخصوص، فقد أكد وزير التجارة الصيني على متانتها وأهميتها، عند زيارته للعاصمة السعودية الرياض لحضور افتتاح أعمال الندوة الخامسة للجنة السعودية الصينية المشتركة، حيث صرح قائلاً: "إن المملكة تعد الشريك الرئيس للصين في الشرق الأوسط ودول الخليج، مشيراً إلى أنه مع نهاية العام الماضي بلغ حجم الاستثمارات الصينية في المملكة 5.6 مليار دولار". وفي تلك الندوة لفت معالي الدكتور إبراهيم بن عبدالعزيز العساف؛ وزير المالية السعودي، الانتباه إلى أن حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة بين البلدين شهد نمواً متسارعاً ليبلغ حوالي 71.3 مليار دولار، مشيراً إلى أن معظم الصادرات السعودية إلى الصين هي عبارة عن صادرات نفطية. كما توجد استثمارات سعودية كبيرة في الصين في قطاع التكرير والبتروكيماويات التي بادرت أكبر شركة زيت في العالم - وهي أرامكو السعودية - بالاستثمار فيها مع شركات أجنبية وصينية، وقد تزداد هذه الاستثمارات في المستقبل في قطاع التكرير والتجزئة وفقاً لما تناولته الوسائل الإعلامية مؤخراً. ولا شك أن هذا النمو يدل على مدى قوة وحجم التبادل التجاري بين البلدين، وعلى متانة العلاقات والروابط بينهما. وعلى الصعيدين العربي والإسلامي، تستطيع الدول العربية والإسلامية بناء منظومة اقتصادية متكاملة ترتقي إلى مصاف القوى الاقتصادية العالمية المؤثرة، وتُعزز قدرتها التنافسية بشكلٍ كبيرٍ أمام أي منافس آخر، خاصة أن هذه الدول - بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي - تمتلك من الثروات المتنوعة والمقومات الاقتصادية الأخرى ما يمكنها من بناء اقتصادٍ قويٍ ومتكامل ومستدام النماء، ولا ينقصنا، بحق، لتحقيق هذه الغاية ولبلوغ مرحلة التكامل الاقتصادي العربي الإسلامي، إلا أن يتوحد صف الأمة وكلمتها، وتتضافر جهودها في سبيل الاستفادة من الهياكل التنظيمية الموجودة فعلاً، وغير المُفعَّلة على المستوى المأمول، مثل السوق الخليجية المشتركة والسوق العربية المشتركة، إذ أن تطويرنا لهذه الهياكل وتفعيلها بالشكل والمستوى الاقتصادي المأمول، لن ينفعنا اقتصادياً فحسب، بل سيجعل تعاون عمالقة الاقتصاد العالمي، كالصينوالهند على سبيل المثال، أكثر إمكانية وجاذبية وفاعلية. وها هي الآن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ قد أبرمت بعد التوصل في الأيام القليلة المنصرمة إلى اتفاق نهائي بين الدول الأعضاء بعد مفاوضات مكثفة، أحيطت بسياج قوي من السرية والتعتيم، وعلى إثر التوصل لهذا الاتفاق الذي يعد نصراً وإنجازاً كبيراً لإدارة الرئيس الأمريكي أوباما، أعلن وزراء التجارة في دول الشراكة عبر المحيط الهادئ الاثنتي عشرة دولة، أن التوصل لهذا الاتفاق المهم سيترتب على إثره إلغاء معظم الرسوم والقيود المفروضة على حرية وحركة التجارة والاستثمار بين الدول الشركاء في هذه الاتفاقية بعد مصادقة الدول الأعضاء عليها ودخولها حيز التنفيذ. والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه هو : هل تستطيع الدول العربية والإسلامية اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من تأثير اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ - ومن بينها إبرام اتفاقية طريق الحرير - وتفعيلها على أرض الواقع ؟. والجواب : نعم، لكن لن يتم ذلك - كما سبق أن أشرنا أعلاه - إلا بتضافر الجهود العربية والإسلامية، وتوسيع دائرة العلاقات التجارية والاستثمارية مع الصين ومع غيرها من القوى الاقتصادية الصاعدة، بغية حماية اقتصاد بلداننا من التكتلات الأجنبية التي سوف تتسبب في إحداث أضرار يصعب تلافيها بعد فوات الأوان. وأخيراً فإن الأمل يحدونا بأن تبادر دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة دون تردد بإبرام اتفاقات تجارة حرة مع الصين للاستفادة من اقتصادها القوي والواعد لأسباب واضحة منها تنويع حلفاء وشركاء دول المجلس، خصوصاً أن هذا الوقت يعد مواتياً لرغبة الصين في شراكة جادة مع بلاد العرب، ولهذا أطلق رئيسها مبادرة إحياء طريق الحرير. ولا يخفى أن العلاقات بين الدول تقوم في أساسها على المصالح المشتركة التي توطد العلاقات في كثير من الجوانب المهمة بين هذه الدول، فاليوم الاقتصاد والمصالح الاقتصادية يقود السياسات والعلاقات الدولية ويسخرها لخدمة الأهداف الاقتصادية. تخطيط جغرافي يوضح المسار الاقتصادي لطريق الحرير