في ظني أن هناك مفردتين يسكنان عقل ووجدان الأستاذ محمد العلي، وهما اللتان ربما شكلتا العنوان العريض أو الرئيس في تجربتيه سواء كانت الشعرية أم الفكرية وهما مفردتا التاريخ والمجتمع، وهما المنطلق الذي سكنه على امتداد أكثر من نصف قرن، لهذا نجده حينما يعرف الحداثة يقول «الحداثة أن لا يسبقك التاريخ» فهو لا يعنيه مفهوم الحداثة أو بأي تعريف تكون بقدر ما يعنيه هل هذا المفهوم ينطلق من فلسفة التاريخ أي بمعنى آخر هل «حداثتنا» إن جاز أن نقول ذلك في سباق مع التاريخ؟!، أم نحمل مصطلح الحداثة وندور حوله، دون أن يكون للتاريخ حضور في فهمنا للحداثة والفلسفة التي تقوم عليها، أي الحداثة القائمة على السباق مع التاريخ؟. أما العنوان التالي فهو عنوان «المجتمع» لذلك حينما تسأله عن أبرز ما يميز المثقف الحقيقي يقول لك «حسه الاجتماعي أي الإحساس بالمجتمع» فدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك مثقف حقيقي، ولهذا أتذكر حينما سألته قبل قرابة الثماني سنوات في حوار كنت قد أجريته معه نشر في الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة، بماذا تفضل أن تعرف به كمثقف؟ أجاب: «أفضل أن أعرف بأني جاهدت في تغيير الفكر الاجتماعي وهذا يكفي». نعم فخلل الفكر الاجتماعي هو الذي انطلق منه أغلب الفلاسفة، الذين غيروا في مجتمعاتهم، أو قادوا الحركة الإصلاحية فيه، ومن هنا يكون المقال والفكر الذي يحمل هاتين المفردتين «مفردتي التاريخ والمجتمع»، هو الأقرب إن جاز القول لتلمس سلبيات المجتمع وتقديم الرؤية المستقبلية، انطلاقا من القاعدة التي وضعها العلي للحداثة، «أن لا يسبقك التاريخ»، وهذه المقولة التي تنطلق من السباق مع التاريخ، هي في ظني الفهم الحقيقي لماهية المستقبل، وكيفية قراءته، ولكن هذه القراءة والفهم، لكي تتحقق مستقبليا ويكون لها حضورها في حركة التاريخ، مشروطة بوضع فلسفة ومنهج، لمقولة السباق مع التاريخ، ولهذا كان العلي واعيا لهذه النقطة حينما قال في أحد لقاءاته «نحن في بداية البداية، وبيننا وبين الحداثة ثلاثة أشهر ضوئية»، لأن المفاهيم الفلسفية والأفكار التي تسابق التاريخ، والمنطلق كما اعتقد من هوية المجتمع، ليس لها صدى حقيقي في المجتمع، إن لم تكن غير موجودة من الأساس، فكل ما لدينا من مفاهيم ومصطلحات هو نتاج غربي، فكيف لنا أن نكون حينها في سباق مع التاريخ، بل نحن متخلفون عنه بمقياس الأشهر الضوئية! التي ذكرها العلي، ولم نضع القدم الأولى في مضمار السباق مع التاريخ، برغم حضور المقال المسكون في عملية التغيير، وهذه النظرة (الأشهر الضوئية) ليست متشائمة، كما قد يتبادر لأذهان البعض، بقدر ما هي تحاول أن تحرك الراكد لتبقى ثنائية «التاريخ والمجتمع» حاضرة في نتاج المثقف العربي، أي يجب أن يكون المثقف العربي مسكونا بهذه الثنائية، ليؤسس عليها أفكاره ومفاهيمه، لأن دون هذه الثنائية، تكون ربما أي فكرة منتجة، متخلفة عن ما أنتجته الحضارات التي تعيش في سباق مع التاريخ، مما يجعل المثقف لدينا يعيش ازدواجية في مقياسه للتقدم، فهو مستاء من حالة التخلف التي يعيشها المجتمع العربي، في مقابل المجتمع الغربي، وفي نفس الوقت تجده ينتج الأفكار والمفاهيم المتخلفة عن ذلك المجتمع (الغربي)، مع قلقه كذلك من حالة الاستهلاك التي يعيشها الفرد العربي، لكل ما هو غربي، ومع ذلك تجده (المثقف) يستهلك الأفكار والنظريات الغربية، وربما تماهى معها، بشكل يفقده هويته، وحينما يفقد المثقف هويته يفقد جوهره، وبالتالي يفقد الوعي الذاتي لسباقه مع التاريخ، مع هوية المجتمع الذي يحمل لواء التغيير فيه.