كانت الأمسية التي حضرتها ليلة السبت الماضي في قرية العمران بالأحساء في مجلس الحاج حسن العبدالله، للشاعر و"المفكر" الكبير محمد العلي، والذي تحدث فيها محاضرا عن "تاريخية الأفكار"، ملفتة لي، لا على مستوى عنوان المحاضرة، فهذا قد يكون مما لا يختلف عليه اثنان، ولكن أكثر ما لفتني رجل تجاوز عقده الثامن، ومع هذا تجد جيلا بعمر أحفاده يجلس ليستمع إليه، وشغوفا بما يطرح، وكأن هذا الجيل أوقف عقارب ساعته على ساعة الأستاذ العلي ورآه عصيا من أن يهزمه التاريخ. أي سر في هذا الرجل الذي جعله ربما يتجاوز "تاريخية الأفكار" ويبقى مؤثرا في ساحة الفكر والأدب، ولماذا لم يتجاوزه التاريخ كما هو عنوان محاضرته؟، بل ظل العلي شاغلا محبيه ومنتقديه على السواء، بين من يراه مفكرا من الطراز الأول الذي لا يختلف عن المفكرين الذين ولدوا في الثلث الأول من القرن العشرين، وبين من يراه مجرد كاتب مقال وشاعر مقل. لن أتحدث هنا عن مصطلح "مفكر"، وهل العلي جدير بهذا العنوان أم هو أقرب للأديب من كونه مفكرا، فهذا سجال عقيم لا فائدة منه، وحكمه في ظني حكم من يجهل العلي، ولهذا تجده ينشغل بالعنوان ويترك المحتوى العميق الذي وضعه العلي لأكثر من نصف قرن في ساحة الفكر. إضافة بحكم معرفتي المتواضعة بالأستاذ العلي قارئا له وما سمعته من أشخاص خبروه عن قرب، هو لا تطربه مثل هذه العناوين، ناهيك أنه عرف عنه بأنه ضد التأطير، وما محاضرته الآنفة الذكر "تاريخية الأفكار" إلا خير دليل على ذلك، فالرجل يحمل عقلا فلسفيا في طرح أفكاره، فالكثير من مقالاته المنشورة في جريدة اليوم وغيرها لا يمكن أن يطلق عليها أنها مقالات انطباعية؛ لعمقها وكثافة معناها والنفس الفلسفي الواضح فيها، بل محاضراته التي صدرت بعد ذلك في كتاب "نمو المفاهيم" تجعل منه صاحب عقل فلسفي، يتجاوز في نقده أحيانا الفكرة التي ينتقدها، ومن هنا في رأيي علينا أن نختلف مع العلي، وليس مع عنوان المفكر أو الشاعر، الذي بات أشبه بحديث العجائز لكل من يعرف العلي. ولهذا قد أضع منتقدي العلي في ثلاثة أصناف، أما أولهم: فلا يعرفون العلي ولهذا يحكمون عليه بحكم غير موضوعي وعاطفي، وهؤلاء هم منتقدوه والنافون عنه صفة أن يكون مفكرا وصاحب مشروع، وهؤلاء أكاد أن أجزم بأنهم يتحدثون عن شخص يجهلونه. وأما الصنف الثاني: الذين يعرفون مكانته كمفكر وأنه صاحب مشروع، ولكنهم معارضون لمشروعه، فهؤلاء يقفون ضد "الفكرة" وليس "المفكر" محمد العلي، وأظن العلي يحترمهم وإن اختلف معهم. أما الصنف الثالث: فهم من عرف العلي وعمق مشروعه بل هو الملهم لهم، فهؤلاء فيما اعتقد قلة، ولكن تأثيرهم في الساحة الثقافية بات اليوم كبيرا، ولهذا سوف أنطلق من هذه القلة التي عرفت مشروعه وموسوعية معرفته، وأنه رجل في سباق مع التاريخ، ولكن للأسف هذه القلة رغم تأثير العلي عليهم صمت أكثرهم عن قراءة فكره، وتحدث القلة منهم، حديث ربما يروي بعض ظمأ المتسائلين عن مشروع العلي، وبالأخص جيل اليوم الذين أدعوهم لقراءته قراءة الباحثين، وهو الجدير بالاهتمام لرجل بمكانة العلي وعمق تأثيره. فكم كانت سعادتي حينما استمعت لقراءة مكتوبة لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره لكتاب العلي "نمو المفاهيم" وهو الشاب المثقف محمد سعيد الفرحان، وبرغم أنها كانت قراءة أولية، ولكنها مع ذلك محاولة في الطريق الصحيح. ومن هنا، علينا أن نفتح النوافذ لنرى رؤيته، التي قد يبدو الكثير منها مغلقا على هذا الجيل، وفي حال فتحت هذه النوافذ سوف نشتغل على فكر العلي، وتتضح معالم الفكر لرائد يستحق منا ذلك، فرجل كتب عنه منذ أكثر من عقدين المفكر الفلسطيني شاكر النابلسي في دراسة عميقة عن شعره بعنوان -نافورة النخيل- قال منها "يعتبر محمد العلي من أبرز كتاب وشعراء الحداثة في السعودية، وقد مكنته من هذا المقام عوامل كثيرة، قلما توفرت في كتاب وشعراء الحداثة في العالم العربي"، أما صديقه ومجايله الأديب سعد البواردي فقد قال "قرأت له عبر نصف قرن من الزمن، ما يكفي لأن أضعه دون منافس على قمة المفكرين الذين ينتزعون أفكارهم من خلال تجارب حية تنبض بالحياة والصدق والعمق والمضمون". ولو كان المقام يتسع لذكرنا باقي ما كتب عنه، ومنه ما كتبه الأستاذ علي الدميني في كتابه -أمام مرآة محمد العلي- الذي ذكر فيه أهم عناصر مشروع العلي. وفي الختام، أتذكر حينما سألته بماذا تفضل أن تعرف به كمثقف؟ قال "أفضل أن أعرف بأني جاهدت في تغيير الفكر الاجتماعي وهذا يكفي." مقولة تختصر تجربة تجاوزت الخمسين عامًا قد تكون المنطلق الحقيقي لقراءة مشروع أستاذ جيل اسمه "محمد العلي". * إعلامي متخصص بالشأن الثقافي