لا يكتفي الأدباء والمثقفون في المنطقة خصوصا وفي المملكة عموما بتعبيرهم عن المكانة التي يحتلها الشاعر والناقد والمفكر محمد العلي في نفوسهم، فلم يكتفوا بإطلاق اسمه على حدث استثنائي وهو الدورة الأولى من مهرجان الشعر الذي أطلقه بيت الشعر التابع لجمعية الثقافة والفنون بالدمام، ولكنهم عبروا عن امتنانهم لهذا الاسم من خلال كتاب ضمّ شهادات من أقطار الوطن ومن خارجه عن الرجل، ضمها كتاب بعنوان «تلك الزرقة التي علّمتنا الأناشيد»، إلا أن هذه الشهادات، رغم أهميتها، ليست كل ما يمكن أن يقال، فهناك مزيد من شهادات لم يكن الكتاب ليكفيها، وهنا إطلالة على بعض الشهادات من الكتاب نفسه. إنسان آخر في البدء يقول القاص جبير المليحان في شهادة بعث بها ل «الجسر الثقافي»: ما الذي يمكن أن يقال عن رجل بقامة الشاعر المجدد، والناقد، والمفكر الرصين الأستاذ محمد العلي؟! يستطيع الناقد المتتبع لإبداعه، أن يقول بعض ما يستحق. يستطيع الصحفي المتمرس أن يتابع محطات سيرته. وأنا لست هذا أو ذاك. أنا على قناعة - من خلال المعايشة- بالقدرات الإبداعية، وبالقيادية المتفردة، لهذا الإنسان. وقد قلت يوما: إن محمد العلي لو كان في بلد آخر، لكان شخصا آخر. إن ما أقصده بهذا القول إن هذا الرجل لم يحظ بمكانه الطبيعي الذي يبدع فيه، ويمارس قدراته بكل حرية، في أرض الواقع. أول المعرفة ويتابع المليحان: سأحكي قصة لقائي الأول مع الأستاذ محمد العلي: تخرجت من معهد إعداد المعلمين بالرياض عام 1391ه،1971م، و عينت في مدرسة حسان بن ثابت بالدمام، ذهبت لجلب كتب التلاميذ من مستودعات الكتب التابعة لإدارة التعليم، وهناك تعرفت على صديق من قرية الملاحة بالقطيف، ما زلت احتفظ بصداقته هو الحبيب معتوق المحسّن، الذي كان موظفاً في المستودعات. تحدثنا عن القراءة والكتب، وذكر لي أن مدير إدارة الامتحانات بإدارة تعليم المنطقة الشرقية هو الأديب الشاعر الأستاذ محمد العلي. في اليوم التالي كنت مع هذا الصديق في مكتب الشاعر. أذكر أن اللقاء كان ودوداً، وكنت متحمساً لتجربتي الصغيرة؛ كنت قد كتبت قصة وحيدة وأنا في السنة الثانية المتوسطة، وعرضتها على الشاعر. فوجئت بنشرها في الملحق الأدبي في جريدة اليوم الذي كان الأستاذ العلي مشرفاً عليه. في جريدة اليوم فيما بعد التحقت مصححاً لغوياً في الفترة المسائية في جريدة اليوم، كانت الجريدة في موقعها القديم أمام سكة حديد الدمام، تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، وكنا نحضر من بعد العصر ولا نغادر إلا بعد منتصف الليل. أجواء الجريدة كانت أجواء ثقافية؛ مثقفون وأدباء؛ الشاعر محمد العلي، والشاعر الفلسطيني محمد القيسي، والشاعر الفلسطيني عبدالكريم السبعاوي، والشعراء: علي الدميني وإبراهيم الغدير رحمه الله، وكتاب قصة؛ الأستاذ خليل الفزيع، والأستاذ محمد الصويغ، الأستاذ شاكر الشيخ والأستاذ خالد الشيخ، وأحياناً الأستاذ جارالله الحميد، والصديق الأديب محمد رضا نصر الله.. والكثير. كانت الليالي أشبه بحلقات حوار وتدريب ونقاش لا ينتهي، وإنما نكمله في شاطئ البحر أو أحد البيوت. وكان وجود الشاعر محمد العلي بقصائده، وضحكته المجلجلة، ما يعطي لأمسياتنا طعماً مميزاً. ثلاث ليال في عام 1975م قطعنا مئات الكيلومترات من الدمام إلى البصرة لحضور احتفالات جامعتها: محمد العلي وعلي الدميني وإبراهيم الغدير وكاتب هذه السطور. كانت رفقة محمد العلي معنا مصدر سعادة وإثراء؛ إذ لم نكف طوال الطريق عن النقاش والحوار والقصائد والغناء. إلا أن هذه الرحلة كشفت لي شخصياً ولرفاق الرحلة التعامل الإنساني والسلوك الراقي، والرفقة المطمئنة، وخبرات الحياة؛ خاصة ونحن شباب لا نملك الكثير منها لصديقنا الكبير. لا ماء في الماء ويختم المليحان: طوال ما يزيد على أربعة عقود، ومع نشر الشاعر والناقد الأستاذ محمد العلي لقصائده في الصحف، إلا أنه لم يطبع ديواناً يضم شتاتها. يوم (الأربعاء4/3/2009) أعلن نادي المنطقة الشرقية الأدبي عن صدور الديوان الأول للشاعر الأستاذ محمد العلي، باسم (لا ماء في الماء)، وهو عنوان إحدى قصائده المعروفة. ويقع الديوان في 230 صفحة من الحجم المتوسط. وقد تم عرض الديوان في الجناح المخصص لنادي المنطقة الشرقية الأدبي في معرض الرياض الدولي الذي تم افتتاحه في المعرض. وانتهت نسخ الديوان في اليوم الأول! كان أشبه بالرجاء، وأنا أزور الصديق الشاعر في منزله، طالباً منه أن يوافق على طبع الديوان ضمن مطبوعات النادي في ذلك العام. بالكاد وافق! تحية تليق بشاعرنا الكبير المتفرد في إنسانيته، وعطائه؛ الأستاذ محمد العلي. خارج المحلّية الشاعر البحريني المتألق قاسم حداد كتب في شهادته التي شارك بها في كتاب «تلك الزرقة التي علّمتنا الأناشيد» الصادر عن بيت الشعر بجمعية الثقافة والفنون فرع الدمّام تحت عنوان «محمد العلي .. دائما»، وجاء في شهادته: سيذكّرني بالشاعر الجواهري حينا، وبالباحث حسين مروّة حينا، فيما يذهب إلى مساءلة أدونيس غالباً. عندما، في بدايات السبعينيات (إن كنت أذكر جيداً)، سمعت عن اسمه مقترنا بشعور غامض من (الروزخون) ساعيا للتعرف على (حوزة) خارجة عن الطريق والطريقة. وليس صدفة أن تكون الأحساء جهة ذلك المصدر الغامض. فثمة علاقة حميمة تضعني في مهب تلك المنطقة الصغيرة المزخرفة بمجاري الماء الكسول، بجانب شهوة العمل النشيط، وكائنات غضة، من شتى الأجيال، سوف تتنقل مباشرة، بمحمول تجربتها الإنسانية، من خضرة الحقول إلى غبار ورش العمل في الظهران ورأس تنورة وبقيق وخميس مشيط. ومن بين تلك الكائنات، لن تستطيع تمييز الحدود من بين أهل البحرين وأهل الأحساء. وظني أن (الحسا) في ذلك الوقت لم تكن تعرف العلي بالمعنى الأدبي الذي تعرفنا إليه في البحرين، وحتى حينما يتعلق الأمر بنزوع سياسي ما، فإن العلي عاشق الأدب سنعرفه نحن هنا أكثر. هل هذا شعور غامض، أو غريب، أو هو ضرب من المزاعم؟ لا أعرف. ربما لأن العلي كان متصلا بالخارج العربي أكثر من صبته بالفجوة المحلية، والبحرين ساعتها لم تكن (خارجا) إلا بالمعنى الأدبي، وهذا بالضبط ما كان يستهوي محمد العلي على ما أظن. هل هذا صحيح؟ لا أعرف. تلك الزرقة أما الشاعر والناقد عبدالله السفر فقد كان عنوان شهادته هو عنوان الكتاب ذاته «محمد العلي، تلك الزرقة التي علمتنا الأناشيد»، وجاء في الشهادة: من يؤرّخ للحياة الثقافية في المملكة ومعها حركة الحداثة، لا يمكن أن يتجاوز قامة سامقة باسقة مثل محمد العلي. اسم لا يحتلّ الذاكرة وحسب، ولكنه لا يزال يفعل بحضوره وتأثيره. القلم المتدفّق السيّال في شؤون الفكر والمجتمع والثقافة، ما يفتأ يفتح النوافذ ويجدد الهواء. إن الطاقة المخزونة في كتابة العلي على غزارتها في التنوّع وعلى كثرة التلوينات إلا أنها مشدودة بعصب شعري، يزخر بالعاطفة والانفعال ونفاذ الفكرة، وهذا ما جعل كتابته لا تحتمل المناطق الوسط، وسيرته الشخصية ومدوّنته الفكرية والإبداعية تقوم شاهدا على ذلك. ويقول في موضع آخر: يستحقّ أن نعلنه في محفل الاستحقاقات التي من شأنها الدفع لترابط الأجيال وتبيّن القامات، مثلا وأثراً. فهو من تلك الطينة الخضراء، وهو من ذلك الماء الذي قال عنه ذات نصّ «يا زرقة علّمتنا الأناشيد»، هو الماء في الماء الذي لا يقتضي تعريفا أكثر مما هو عليه من إنسان وتاريخ وسيرة قلم لا يكفكف حبره ولا يماري فيه. المجتمع والتاريخ ويقول الكاتب أحمد الهلال: في ظني أن هناك مفردتين تسكنان عقل ووجدان الأستاذ محمد العلي، وهما اللتان ربما شكلتا العنوان العريض أو الرئيس في تجربتيه سواء كانت الشعرية أم الفكرية وهما مفردتا التاريخ والمجتمع، وهما المنطلق الذي سكنه على امتداد أكثر من نصف قرن، لهذا نجده حينما يعرف الحداثة يقول «الحداثة أن لا يسبقك التاريخ» فهو لا يعنيه مفهوم الحداثة أو بأي تعريف تكون بقدر ما يعنيه هل هذا المفهوم ينطلق من فلسفة التاريخ أي بمعنى آخر هل «حداثتنا» ان جاز أن نقول ذلك في سباق مع التاريخ؟! أم نحن نحمل مصطلح الحداثة وندور حوله، دون أن يكون للتاريخ حضور في فهمنا للحداثة والفلسفة التي تقوم عليها، أي الحداثة القائمة على السباق مع التاريخ. أما العنوان التالي فهو عنوان «المجتمع» لذلك حينما تسأله عن أبرز ما يميز المثقف الحقيقي يقول لك «حسّه الاجتماعي أي الإحساس بالمجتمع»، فدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك مثقف حقيقي، ولهذا أتذكر حينما سألته قبل قرابة ثماني سنوات في حوار كنت قد أجريته معه نشر في المجلة الثقافية الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة، بماذا تفضل أن تعرف به كمثقف؟ أجاب: «أفضل أن أعرف بأني جاهدت في تغيير الفكر الاجتماعي وهذا يكفي». تكريم عربي الشاعر أحمد الهلالي عبّر عن تقديره العميق لبيت الشعر الذي بادر إلى تكريم الرائد والشاعر والمفكر محمد العلي في مهرجانه الشعري الأول، وأضاف: لا يستغرب هذا الوفاء من مثقفي المنطقة الشرقية، الذين حق لهم الفخر بتكريم قامة فكرية كمحمد العلي. والشاعر الهجَري محمد العلي يستحق التكريم من المجتمع السعودي كله، والعربي كذلك؛ لأنه حمل هم هذا المجتمع على عاتق فكره وبحثه وكتاباته من فترات مبكرة، وهو يشتغل على بحث قضايا مجتمعنا، والسعي الحثيث لتنويره، ولفت نظره إلى مقوماته ومكتسباته التي تجعل منه مجتمعا منتجا لا مستهلكا لمنتجات الحداثة. حتى غفل محمد العلي عن جمع نتاجاته التي ثجّ الكثير منها في الصحف والمجلات والمنتديات الأدبية والثقافية، فجمعها المخلصون الأوفياء لتكون مشكاة ضياء فكرية تساهم في تحفيز المجتمع إلى التحرر من قيوده الاجتماعية والسياسية والتاريخية والانخراط في المشهد العالمي حتى نصل إلى مرحلة الإنتاج. هذا المفكر السعودي المسكون بهم مجتمعه وأمته لا يجوز مطلقا أن تغشّيه ظلل التجاهل تحت أي ذريعة فكرية أو غيرها، بل يجب وجوبا قاطعا أن نستثمر أفكاره النيرة، وأن نحاوره فيما دون ذلك، فكلنا مسكون بخروج هذه الأمة من حلك الظل إلى نعيم الشموس، وأن نجد (الماء في الماء). أغلفة كتب للشاعر العلي