كلما غاص المرء بالدنيا وأموالها وأولادها ومباهجها غفل وطال به الأمل، وكلما تفكر فيها وتقلل منها وحاذرها من سرقة قلبه، أراح باله، ورفت نفسه، لذا يلاحظ أهل هذا المقام «الزهدي» في الدنيا -مع جدهم وعملهم وتفاعلهم- أنهم لا تطغى بهم الدنيا، ولا يركبونها ليذلوا الناس، بل يتباعدون من مظاهر فتنتها، فإن تيسرت بأيديهم بذلوها بحب ورضا وحبور، وتعالوا لنقف على مشهد عجيب، لإمام المسلمين ونبيهم في المدينة النبوية، وحدث لأحد صحابته وقصة في أحد بيوتات المدينة. ورد في الصحيح أنه جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه. فقالت: والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء! ثم أرسل إلى أخرى. فقالت مثل ذلك. حتى قلن كلهن مثل ذلك: (لا. والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء). فقال: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله. فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا. إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء. فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل. فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة». وفي هذا الحديث ثلاث وقفات: 1.الأولى، واقع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعيشته، فقد كانت بسيطة وقانعة وزاهدة مع أنه يستطيع أن يكون من أعظم الأغنياء، وما ذاك إلا لكرم نفسه حيث لا يبقى عنده شيء أتاه، ثم يظل الأيام والأشهر لا يوجد في بيوته طعام سوى التمر والماء، وهذا الواقع اختاره لعلمه بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة؛ فجعل الأولى بيديه يبذلها لكل الناس، وجعل الأخيرة بقلبه يدعو الناس إليها. 2.الوقفة الثانية، موقف الصحابي الجليل -رضي الله عنه- الذي لبى طلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، مغتنماً دعوته بالرحمة، وكيف فرح بضيف رسول الله، لكنه تفاجأ بأنه لا يوجد طعام إلا طعام الصبية ففكر في حل المشكلة؛ فأشغلا الأطفال وأطفآ السراج كأنهما يأكلان مع ضيفهما، والحقيقة أن الضيف فقط هو الذي يأكل، فعلا ذلك حتى لا يحرجاه، وفي ذلك مراعاة لخاطره، واستجابة لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما صعد بهما إلى رضا الله ورحمته. 3.الوقفة الثالثة، عظم هذا السلوك الذي جمع الكرم والجود والصبر وتكريم ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقضاء الحاجة وبذل كل السبل لتحقيق ذلك حتى تعجب الله وفرح بهذا الصنيع «العجيب» وكم من الأعمال التي يحبها الله وتعجبه إذا غشاها الكرم، وسقاها الإخلاص، وحلاها البذل والإيثار، إن هذا المشهد يظهر سلوك الصحابة -رضي الله عنهم-، ومعرفتهم بحقيقة الدنيا وأن لذتها بالعطاء، وليس بالإمساك، وأن الغني فيها حقيقة من يزيد الرصيد الأخروي، ولو أدى ذلك لمغالبة مشاعر القلب وحاجة الجسد بتلهية الأطفال وإطفاء الأنوار، ما دام أن الله عليم خبير، فكفى بذلك شاهداً. فوجبة العشاء البسيط في ظلمة الغرفة أدخلت الزوج وزوجته بوابة الرضا الإلهي حتى أفرح الرحمن سبحانه وأعجبه، فكيف بما فوق ذلك!