(مرحوم يا شيخ بدار الفناء نام / مرحوم يا راعي الكرم والشهامة، مرحوم عدد ما طاف في البيت الحرام / يا سالك طريق الإيمان والحق والاستقامة، يا من بأفعال الخير تجاوزت الأرقام / الكل يشهد لك ويبصم ابهامه، ما أصعبك يالسبت من بد الأيام / فيك الحزن أرسل علينا سهامه). عذراً فلم يكن السبت الفائت صعباً فحسب أيها الشاعر الكريم، الذي كتبت أناملك هذه الأبيات في والدي الحبيب «رحمه الله»، بل كان أليماً جداً مظلماً جداً كئيباً جداً خيم فيه علينا الحزن العميق عندما فقدنا أعز الناس وأغلاهم، إنه المصاب الجلل ولكننا نرضى ونؤمن بقضاء الله وقدره ونصبر ونحتسب. تضطرب المشاعر ويتشتت الذهن ولا يكتب القلم في فراق والدي الغالي كلمات وحروفاً بل يذرف دموعاً وينزف دماً، ولكننا نصبر ونحتسب فقد وفد «رحمه الله» إلى رب رؤوف لطيف غفور رحيم. هل كان أبي «رحمه الله» يشعر بقرب فراقه لهذه الدنيا الفانية عندما استبق موعده الرمضاني المعتاد في ذهابه بنفسه وكعادته السنوية في توزيع زكاته وصدقاته على الفقراء والمساكين الذين كان يتفقدهم بين حين وآخر؟ إذ إنه ومع بداية الشهر الكريم اشتدت عليه أعراض المرض بعد العملية الجراحية التي أجراها ثم حدث التدهور السريع في صحته خلال شهرين من وجوده في المستشفى، إلى أن انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها، فاللهم اجعل ما أصابه في هذا الابتلاء من المرض رفعة لمنزلته ودرجته عندك يا أرحم الراحمين. ويأتينا النبأ الحزين مغرب السبت، فتظلم الحياة وتصعقنا المصيبة، فيحزن القلب وتدمع العين ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. وفي المقبرة يأتي الجمع الغفير لتشييع الجنازة ترتفع أكفهم وتلهج ألسنتهم بالدعوات بالمغفرة والرحمة وجميعهم يذكرون أبي الغالي ويشهدون له بالخير، والناس شهداء الله في أرضه، ولعلها عاجل بشرى المؤمن، فلك الحمد يا الله، ما أعظم كرمك وفضلك على عبدك. وعند القبر وقبل أن يوارى جثمان حبيبي الثرى تتعاقب عدة جماعات بالصلاة عليه «رحمه الله»، ثم لا نسمع إلا الأنين والدعوات ولا نرى إلا البكاء والتأثر البالغ. وفي طريقي من القبر إلى مكان استقبال المعزين في المقبرة يلحق بي أحد الأخوة من العمال الوافدين تفيض عيناه من الدمع تخنقه العبرات ويقول لي: «أنا حزين.. أنا أحب بابا كثير». كان هذا الوافد العزيز واحداً من العشرات منهم الذين شيعوا الجنازة في المقبرة، لقد كان والدي الحبيب «رحمه الله» يحبهم ويعطف عليهم ويتصدق عليهم ويساعدهم ويتفقد أحوالهم، كما كان يفعل مع كل فقير ومسكين ومحتاج من الأقربين الأولى بالمعروف. لقد عاش أبي «رحمه الله» غالب حياته في كفاح وتضحية وتعب ونصب ليوفر لنا الحياة الكريمة في حياته وبعد وفاته، فقد عمل في ارامكو منذ أن كان عمره 15 عاماً ولمدة 44 سنة متتالية، فاللهم جازه بالحسنات إحساناً يا رب العالمين. ولم أر ولا أظن أنني سأرى رجلاً في هذا الزمان في حلم والدي «رحمه الله»، لقد كان محبا للخير وأهله متبعاً لسنة المصطفى «عليه الصلاة والسلام»، سمحاً كريماً عطوفاً نقيا عفيف اللسان لا ترى ولا تسمع منه إلا الطيب من الخلق والقول والفعل، كان يجد «رحمه الله» راحته في المسجد، حيث الصلاة والذكر وتلاوة القرآن ففيه تعلق قلبه وتشبثت روحه. اللهم اجعل مثواه الفردوس الأعلى من الجنة، وأنزل عليه شآبيب رحمتك ومغفرتك ورضوانك، واجعله في عليين في منزلة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.