كبرى البلدان المنتجة للنفط تواصل الضخ، حتى مع أن الأسعار هي عند أدنى مستوى لها منذ 6 سنوات. ألا تعلم هذه البلدان أنها بذلك تزيد الأمور سوءا؟ بالطبع هي تعلم ذلك- فكل بلد لديه أسبابه الخاصة للاستمرار في الضخ- لكن هذا الوضع لن يستمر إلى الأبد. أحدهم سوف يضطر إلى التراجع في السنة القادمة أو نحو ذلك، وعلى الأرجح سيكون ذلك من قِبل شركات إنتاج النفط الصخري الأمريكية. في الولاياتالمتحدة، هبط سعر الخام إلى ما دون 40 دولارا للبرميل، وهبط خام برنت الأوروبي إلى ما دون 45 دولارا. مع ذلك، ارتفع الناتج من أوبك ليصل إلى 31.5 مليون برميل يوميا في يوليو. الإنتاج الآن في السعودية والعراق وفنزويلا هو عند أو قريب من أعلى مستوى منذ سنة. روسيا، التي هي الآن أكبر منتج للخام في العالم، رفعت إنتاجها بنسبة 1.3 بالمائة بالمعدل السنوي في الفترة من يناير إلى يوليو، وهي تقوم بضخ 10.6 مليون برميل يوميا. في الأسابيع الأخيرة تراجع الإنتاج الأمريكي قليلا، ليصل إلى 9.3 مليون برميل يوميا، نزولا من ذروته في يوليو عند 9.6 مليون برميل، لكنه ما زال أعلى بنسبة لا يستهان بها عن أرقام السنة الماضية، حين كانت الأسعار أعلى من ضعف الأسعار الحالية. أبسط تفسير لهذه الظاهرة هو أن البلدان المنتجة بحاجة إلى النقدية؛ كلما تراجع السعر، ازدادت حاجتهم لبيع كميات أكبر للمحافظة على معدل الإيرادات. من أكبر البلدان الثلاثة المنتجة للنفط- وهي روسيا والسعودية والولاياتالمتحدة- تنطبق حجة «الحاجة إلى النقدية» أكثر ما يمكن على روسيا. في السنة الماضية، في الوقت الذي أخذت فيه أسعار النفط بالتراجع، عومت روسيا عملتها بسرعة. منذ ذلك الحين، كان سعر الروبل ينخفض انسجاما مع النفط، بالتالي كان كل برميل إضافي يباع ينتج نفس الإيرادات من الروبل. نتيجة لذلك، ليس هناك سبب لدى روسيا لتقليص الإنتاج، حتى وإن كانت ستعاني في المستقبل من تراجع في الناتج، لأن شركات النفط الكبرى في روسيا قلصت الاستثمار بصورة حادة. من جانب آخر، لم تقم السعودية بفك ارتباط الريال بالدولار، وبالتالي فإن بيع المزيد من النفط بأسعار أدنى ليس له معنى اقتصادي من وجهة نظر السعوديين. لكنهم مقتنعون أن ذلك له جدوى بالمعنى الاستراتيجي. رغم أن الهجوم الأول على منتجي النفط الصخري الأمريكي تبين أنه غير ناجح، إلا أنهم مصرون على المواصلة. في تقرير الاستقرار المالي الأخير الصادر عن مؤسسة النقد العربي السعودي، ذكر أنه «أصبح واضحاً أن الدول المصدرة للنفط من خارج الأوبك لا تستجيب لأسعار النفط المنخفضة بالقدر المتصور سابقاً، على الأقل في المدى القصير». وأضاف التقرير: «وكان الأثر الرئيس للأسعار المنخفضة الحالية هو الحد من عمليات الحفر للبحث عن آبار نفط جديدة عوضاً عن الحد من تدفق النفط من الآبار الحالية. ولذا من المتوقع أن تؤثر الأسعار المنخفضة في الفترة الراهنة على الإنتاج المستقبلي للنفط بدلاً من الإنتاج الحالي. ويتطلب ذلك قدراً من الصبر من دول الأوبك المنتجة للنفط والرغبة في الحفاظ على ثبات الإنتاج حتى يصل الطلب إلى مستويات العرض الحالية». من جانب آخر، ذكرت بلومبيرج أن على الأقل 15% من إيرادات الربع الأول التي حققتها 30 شركة من أصل 62 شركة في مجال النفط والغاز، المدرجة في مؤشر بلومبيرج للتنقيب والإنتاج في أمريكا الشمالية، جاءت من مبالغ التحوط، وهي عقود للمشتقات تسمح للشركات بتثبيت الأسعار. عمليا هذا يعني أن التحوط يسمح للشركات بمواصلة استلام أسعار أعلى من أسعار السوق مقابل ما تنتجه من نفط. ومن المرجح أن حصة الإيرادات الآتية من عقود التحوط شهدت ارتفاعا في الربعين التاليين، في الوقت الذي انخفض فيه سعر الخام. وتعتبر عقود التحوط جزءا كبيرا في تفسير السبب أن الشركات الأمريكية واصلت مستويات الإنتاج، لكن معظم هذه العقود ستكون قد انتهت بحلول نهاية هذا العام. ومن غير المرجح أن يتم تجديدها، لأنها ستكون مكلفة فوق الحد في ظل أسعار العقود الآجلة الحالية التي تزيد على 90 دولارا للبرميل، وهو مقدار الأموال التي غالبا ما تتلقاها شركات التكسير الآن بفضل عقود المشتقات. عند هذه النقطة، ستجد شركات الحفر الأمريكية أن من الصعب عليها تسديد الديون التي عليها، والتي تبلغ في مجموعها 235 مليار دولار. بحلول ذلك الوقت ستكون الكفاءة الإضافية في المجالات التكنولوجية والمالية (التي انطلقت هذا العام) قد وصلت ذروتها. وسيكون من الصعب الحصول على قروض جديدة، ولن تستطيع شركات حفر النفط الصخري أن تكرر ما حققته في النصف الأول من عام 2015، حين استطاعت تجميع 44 مليار دولار عن طريق بيع السندات والنفط الصخري. فمن الذي سيربح في حرب الأسعار التي طال أمدها؟ دعونا نفحص ترسانة الأطراف المعنية. لدى السعودية 672 مليار دولار من الاحتياطيات الدولية (مع أن هذا المبلغ تقلص بنسبة 8.5% بين يناير ويونيو). هناك ورقة لا تزال موجودة مع السعودية، وهي تخفيض العملة. قال كريم ماسيموف، رئيس وزراء كازاخستان، إن السعودية وبعض جيرانها الخليجيين سيتعين عليهم أيضا تعويم عملاتهم للتعامل مع الواقع الجديد لأسعار الخام. لكن لدى السعوديين مصادر أخرى غير مستغلة. فالسعودية في الوقت الحاضر لا تجمع حتى ضريبة الدخل، وهي تدفع مبالغ هائلة لدعم الطاقة، وهي مبالغ يمكن خفضها. كما أن الدين الحكومي هو فقط 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يجعل أمام الدولة مساحة كبيرة للاقتراض. بطبيعة الحال نحن لا نتوقع أن تقوم السعودية بقذف هذه الأسلحة الاحتياطية في حرب أسعار مع شركات النفط الصخري الأمريكي. لكن هذه الأسلحة موجودة لديها. بالمقابل، كل ما يحمي شركات النفط الصخري الأمريكية هو قدرتها على الابتكار ودفع التكاليف إلى الأدنى. أثبت العام الحالي أنه لا ينبغي الاستهانة بهذه القدرة، لكنها بالتأكيد قدرة محدودة، وعلى العموم توقف الإنتاج الأمريكي عن النمو. حتى الآن، كل ادعاءات إيران بالعودة إلى أسواق النفط العالمية ليس من شأنها سوى مساعدة السعوديين في هذه المهمة، لكنها مقامرة طويلة الأمد، والموقف متقلب. لكن إلى أن يتحقق النصر لأحد الطرفين، وهما صناعة النفط الصخري الأمريكي، أو السعودية، فإن المتفرجين، وحتى كبار المتفرجين مثل روسيا، لن يكونوا قادرين على الانتفاع من ارتفاع إيرادات النفط.