وأعود إلى أبها البهيّة وذكرياتي عنها أيام الطفولة وانتقال والدي الغالي إليها من مكةالمكرمة في نهاية الستينيّات الهجرية. وبحكم عمل الوالد أطال الله لنا في عمره على الطاعة وكان تلك الأيّام في منتصف العمْر يعشق التنقل ويجد في الترحال عشقه وفي الاستقرار يضع نفسه في خدمة الآخرين والذين كانوا يرون فيه الشخصية القويّة والشفاعة الحسنة لدى الجهات الحكومية ومسئوليها بحكمة وحنكة الرجال من هنا لا بد من البحث عن عائلة أبهاوية أمينة تراعي وترْعى ابنه الوحيد والذي يحتاج لاهتمام خاص الى ان يوفقه الله بزوجة صالحة تهتم به أيضاً وتستقبل ضيوفه الذين يرون في بيته خيمةً يستظلّ بها العديد من أبناء منطقة عسير وخاصة كلّ يوم اثنين استعداداً لسوق الثلاثاء التجاري الذي يرون فيه يوماً مهما لبيع منتجاتهم ومحاصيلهم الزراعية من القرى المحيطة بعاصمة عسير (أبها) في الساحات والمرتفعات في وسط أبها، وكانت منتجات بسيطة مثل الحطب والماعز واللبن ومشتقاته والعسل والريحان والأخير مطلوب النساء في عسير حيث تضعه المرأة بطريقة خاصة في وسط رأسها بعد تتطييبه وتزيينه ويسمّى باللهجة العسيرية (الْمكْعس) وبعض رجال تهامة عسير يزّين رأسه ببعض الريحان والبرْك ولكن بطريقة دائرية الشكل تسمّى (عصابة)! أعود للعائلة التي كان يبحث عنها والدي لتتولّى حضانتي ووجدها لدى من كنت أسمّيه ب (يا آبه) وهي باللهجة الأبهاوية يا والدي رجل فاضل يسمّى عبدالوهاب بن خضره كان يعمل في المحكمة الشرعية بأبها من قرية بني مالك عسير وزوجته أمّي حليمة بنت علي رحمهما الله جميعاً وغفر لهما وأسكنهما فسيح جناتّه. كم كانا بالنسبة لي والدين رؤومين حنونين بذلا في حياتهما جهداً ورعاية واهتماما من أجلي فكان بيتهما المتواضع بمساحته الصغيرة في حيّ البديع بأبها بالنسبة لي قصراً ولا كلّ القصور التي نشهدها اليوم بمساحات وآلاف الأمتار ولكن للأسف ضيّقة بأهلها لفقدان الترابط الأسري والبعض لا يعرف الغرف الشاسعة بها، كانت أمّي حليمة تذكرني بحليمة السعدية والتي أسعدها وشرّفها الله بتربية الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه حيث كانت حليمتي رحمها الله امرأة متديّنه محافظة على صلواتها متمسكّةً بتقاليدها راعيةً للأمانة صادقة في قولها وعملها ارتبطت بها ارتباط الابن بوالدته وكانت تتحمل عبثي وشقاوتي وتسهر معي في مرضي وصحتي وتبحث عن سعادتي أينما كانت، وكان زوجها رحمه الله خير صديق وأخْ للوالد وقف معه في السّعة والضّيق رجلُ مرح ومواقف يقف في وجه الوالد بكلمة الحقّ والإصلاح وكان والدي بقوّته وسلطته يضعف أمامه ويلبّي طلبه، فعلاً كان ذاك الزمن زمن الرجال والنساء كانوا يعالجون كلّ أمْر مهما كان عصيّاً بحكمة ورصانة وحلْم وعقل بهدوء ونقاء وقلوب صافية بيضاء كالثلج لا تحمل حقدا ولا ضغينة، نهارهم عمل وكفاح ونومهم ليلاً بعد عناء بدون قلق وتوتّر بل براحة وطمأنينة، ترى دخّان الملْهب مع الفجر وتشّم رائحة خبز الميفا (الدّوح) وتسمع دقّات المهراس لإعداد قهوة عسيرية بطعم الحَوار والنّخوة، ومعه الشاي بطعم الحبق ذي النكهة التى تضرب في الرأس بعد قطفه من وادي أبها الصافي النقّي بنقاء أهل ذاك الزمن الجميل وللحديث بقية.