صدمني أحد الأصدقاء بسؤال مفاده. من تتوقع يقرأ لكم اليوم يا كتاب الصحف؟ ثم أجاب مباشرة دون أن يسمع مني جوابا، وما أكثرهم هؤلاء الذين يسألون ويجيبون وكأن أحدهم يحضر لاندفاع صارخ كقنبلة يريد أن يقذفها فقط ويمضي فقال لي: مقالاتكم لا يقرأها إلا ثلاثة: من تهمه مباشرة أو وجهت له بشكل صريح، ويقرأها العاملون في أجهزة الرقابة، وأيضا أمثالي الذين يهتمون ببعض الكتاب وكلهم لن يرسل لك أي شكر أو تعليق أو تفاعل، فنحن مجتمع لا نتفاعل مع الكاتب ومقالته إلا سلبا فعند المصيبة أو الفضيحة سيظهر فجأة جمهور الشامتين. والحقيقة أن كل يوم تكبر قناعتي بأن واقع ما قال صاحبنا الثائر له نصيبه من النظر، فسيلان الحبر وكثرة الورق، وانتشار الصحف، وتعدد صروف القلم يوقفنا على ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في شأن علامات الساعة الصغرى وعدّد منها فقال: "وأن يكثر فيكم الكلم"، وكأنها إشارة خاطفة من الرسول صلى الله عليه وسلم والذي أوتي جوامع الكلم أن الأمة ستبتلى بكثرة الكلام الذي ليس من العلم النافع، والذي ليس له حظ من المنفعة والنفع، والواقع أن عموم كتاب الصحف حاليا لا يجيدون سوقا لبضاعتهم ولا عند جمهور القراء لأننا أمة لا تقرأ، ولتمحور القراءة بالحاجة والاهتمام، حتى أصبحت المقولة: "ما يكتب في مصر ويطبع في لبنان يقرأ في العراق" مقولة ما زالت سارية المفعول! ولعل ما ابتليت به أجواؤنا الإعلامية والأدبية وحتى الثقافية حتى بعد عن المقصود، ورام كثير من كتابنا وأدبائنا عن المطلوب فأصبح هاجس الإثارة والاستعراض الثقافي أو الأدبي هو المرام والغاية فأصبحت أجواؤنا الثقافية والأدبية معكرة وغير صافية، فهل مسؤولية الكلمة وغاياتها وثمرتها هي الهدف المحوري الذي يدار حوله، ويهتم له؟ فكم هو جميل أن يبسط الإنسان مساحة تفكيره ناظرا ومتأملا ليجيش بما في خلده وصدره من مشاعر وأحاسيس مسطرا بقلمه رأيا أو عبرة، ولكن الأجمل أن يكون لهذا وذاك هدف ومعنى وغاية سامية نبيلة، فما يضر الكاتب إن سأل نفسه بعد التروي والتفكير لماذا أكتب؟ إنه سؤال ذكي ومنطق سوي!! ويعجبني ما أجاب به أحد الفلاسفة المفكرين الغرب حينما قال: الكتّاب اثنان: واحد يكتب ليبهر والآخر يكتب ليعبر، فالإبهار إذا ما كان هو الغاية التي ينشدها الكاتب والأديب فقد أخفق، فالمهم هنا هو صدق التعبير وسلامة الهدف ووضوحه وحرارة العاطفة دون اللجوء إلى أساليب الإثارة والإبهار أو محاولة خداع القارئ أو الإيقاع به في "شرك المبهر الكاتب" خاصة إذا كان يريد تمرير فكرة أو رأي فإنك تراه يغلّفها بأجمل إطار ويتعاهدها بأطيب المبهرات والمحسنات مما يدخل في باب المبالغات أو حتى المغالطات، ولعل من ارتبط بالمنافسة الصحفية أو الإعلانية ليقع في هذا أحيانا فإن رضينا بهذا وقبلناه مثلا فإنا لا نقبله في مسائل الفكر الجاد أو المعالجات الموضوعية فقبل أن تكون الكتابة والتعبير صنعة وهواية يجب أن تكون دراسة ودراية أساسها قائم على العلم الناضج الصحيح والصدق والاحتراف لا على الإبهار والتبهير والحشو والتفيهق والتقعر. إننا كي نكتب لابد أولا أن نجدد السؤال على أنفسنا لنقول لها: لماذا أكتب ولمن نكتب؟ فلباس الشهرة والتجمل في الصحف إن كان هو الغاية فهنا الطامة، لذا فالرسالة القيمية للكاتب يحرص عليها الكبار، وبالمقابل فإن اختمار الفكرة في الرأس، والتعايش معها وغربلتها ضرورية ثم اتباعها بالاستعداد النفسي الهادئ المتأمل الواعي البعيد عن التوتر وتزييف الحقائق، فسهل أن نكتب لننثر زوبعة أو نقلب حقيقة أو أن نحرك فقاعة الصابون، ولكن صعب أن نكتب لنجسد حقيقة واقعية قيمة هادفة مبنية على الحق لتشعر القارئ بالارتياح والثقة، فعلى الكاتب والأديب والمحلل أن يتحلى بروح الموضوعية والدقة والاختصار المفيد والتركيز على المضمون لا على الشكل وأن تكون اللغة سهلة عميقة بعيدة عن التكلف فإذا عرفنا ميزان الكلمة ومسؤوليتها ثم كيف ومتى وأين نضع الكلمة، سهل علينا أن نعبر ونفيد لا أن نبهر ونحيد!. * أكاديمي وإعلامي