عودة لمناخات الحرب الباردة الحرب الباردة، تعبير جرى استخدامه بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا مع بداية الخمسينات من القرن المنصرم. ويقصد به الصراع ذو الأوجه المركبة، بين أقوى قوتين عسكريتين في حينه على الأرض، الاتحاد السوفييتي والولاياتالمتحدةالأمريكية. وهو صراع ما كان لأحد الطرفين حسمه عسكريا، بسبب امتلاكهما للقوة النووية التدميرية، القادرة على الإبادة الكاملة للجنس البشري. وكان البديل عن المواجهة العسكرية المباشرة بين القوتين، هو وضع ضوابط غير مكتوبة، تضمن استمرار الصراع بينهما، دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، لأن مثل هذه المواجهة، تعني الفناء المحتم للبشرية. وبضمن هذه الضوابط، اعتراف الطرفين بوجود حدائق خلفية، ومناطق حيوية لكل منهما، لا يجوز لأحدهما التدخل في اقطاعيات الآخر. وكان مؤتمر يالطة، الذي جسد طبيعة القسمة بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، هو أول ملمح، لتلك الضوابط. الضابط الآخر، للعلاقة بين هاتين القوتين أثناء الحرب الباردة، هو أن الحرب إن شنها أحدهما، ضد مصالح الآخر، فإنها تتم بالوكالة. وكهذا اشتعلت الحروب أثناء الحرب الباردة، إما باقتصارها على الحلفاء، أو بتدخل أحدهما في مقابل حليف للآخر. كما حدث في الحرب الكورية، وفي حروب جنوب شرق القارة الهندية، وفي الصراع العربي الإسرائيلي. وكان للصراع أوجهه السياسية والعقائدية والاقتصادية، فهو صراع بين نظامين سياسيين مختلفين في موقفيهما من الحرية، وينتهجان عقيدتين، تقوم إحداهما على المبادرة والحرية الاقتصادية، وتستند الأخرى على إدارة الدولة لوسائل الإنتاج، وعلى الملكية الجماعية. وقد عكس التوجهان ذاتهما على البرامج الاقتصادية، حيث الأول رأسمالي، مفتوح، والآخر اشتراكي، تلتزم فيه الدولة بالتخطيط، والخطط التنموية الخمسية. سقط الاتحاد السوفييتي ومع سقوطه سقطت الكتلة الاشتراكية، وتربعت الولاياتالمتحدة على عرش الهيمنة الأممي، وسادت حقبة الأحادية القطبية، لأكثر من عقدين. وتشكلت روسيا الاتحادية، على قاعدة المنهج الغربي في الحكم، القائم على التعددية والفصل بين السلطات وتداول السلطة، وإنهاء حكم الحزب الواحد. لكن دورها في السياسة الدولية، تضاءل ليقترب من مستوى الصفر. عادت روسيا مجددا وبقوة إلى الواجهة، لتمارس دورها القديم في صناعة القرار الدولي، وإن كان ذلك بوتائر مختلفة. ومع هذه العودة، تغيرت العلاقة بينها وبين الولاياتالمتحدة، لتنتقل من الاستتباع إلى الشراكة. ورغم الخلافات الجوهرية بين البلدين، حول قضايا كثيرة، من ضمنها قضية الدرع الصاروخي، ومحاولة روسيا الدؤوبة استعادة دورها في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، التي تعتبرها حكومة بوتين بمثابة الحديقة الخلفية، وعمقها الحيوي، فقد بقي الطرفان، الأمريكي والروسي، متمسكين بتوصيف الشراكة، للعلاقة بينهما. وتكرر ذلك، حتى أثناء الأزمة السورية، التي وقف فيها الطرفان على طرفي نقيض. لكن التطورات الأخيرة، في أوكرانيا، وسقوط النظام الحليف لروسيا، وقيام نظام يطمح كثيرا إلى الالتحاق بالوحدة الأوروبية، غير كثيرا من صورة المشهد، وربما تكون من نتائجه تبدل العلاقة بين روسيا وأمريكا، وحلفائها بالإتحاد الأوروبي، من توصيفها بالشراكة، إلى الحالة الصراعية. فالأوربيون والأمريكيون، كما تراهم روسيا، تجاوزوا الخطوط الحمراء، باستقطاب أوكرانيا لصفهم. بمعنى آخر، أصبحت روسيا مهددة، عن قرب، من خلال حديقتها الخلفية. لدى روسيا أوراق كثيرة، تستخدمها في مواجهة الأمريكيين والأوربيين، لكنها جميعا لن ترقى إلى مستوى المواجهة العسكرية. فمثل هذه المواجهة، ستكون مستحيلة، كما تؤكد المصادر الروسية، لكن ذلك لم يمنع الرئيس بوتين، من دعوة القوات الروسية لامتحان جهوزيتها، والاستعداد لتطورات الموقف. روسيا معنية بشكل مباشر بما جرى في أوكرانيا، لأسباب استراتيجية، ولأن الحركة الاحتجاجية التي شهدتها العاصمة كييف، كانت احتجاجا على رفض الرئيس الاوكراني فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في نهاية نوفمبر من العام المنصرم، مفضلا الانحياز لروسيا، وقبول ما تعهد به الرئيس بوتين، من تقديم مساعدات تقدر قيمتها ب 15مليار دولار. التاريخ لا يعيد نفسه، وروسيا وأمريكا تهيآن للدخول في حرب باردة جديدة، لكنها بالتأكيد مختلفة من حيث المضمون والشكل، عن مثيلتها، التي استمرت أكثر من أربعة عقود. فصورة الصراع العقائدي بين القطبين الدوليين لم تعد قائمة، وليس لها مكان في الصراع الجديد. والنظامان السياسيان متشابهان في كثير من أوجهها. فكلاهما يلتزمان بالاقتصاد الحر، ويطرحان التعددية وتداول السلطة، وإن كان ذلك بشكل أقل في روسيا الاتحادية. مرحلة استقطاب دولي، اقتصادي وسياسي وعسكري قد بدأت، وتشكل منظومة البريكس هو أحد أوجهها. وربما يكون الوقت لا يزال مبكرا، لتحديد معالمها والقوى التي سوف تلتحق بأي من الفريقين المتنافسين، لكن المؤكد، أننا على أعتاب مرحلة جديدة، شبيهة مناخاتها، بمناخات الحرب الباردة، وسوف تتضح ملامحها قريبا، وليس علينا سوى الانتظار.