كان ما تكشف عن عمليات تجسس من جانب الولاياتالمتحدة في أوروبا سببا في إلحاق الضرر بالعلاقات بين الجانبين ما دفع البيت الابيض لتقديم اعتذار وعزز ذلك شعورا بالرقي الأخلاقي بين الاوروبيين بعد أن توالت التسريبات الواحد تلو الآخر على مدار العامين الماضيين. ورغم ذلك فإن حكومات الاتحاد الاوروبي تعمل على زيادة عمليات مراقبة مواطنيها. بل إن فرنسا - التي مازالت تعاني من آثار هجمات المتشددين التي وقعت على أراضيها في يناير - أقرت الشهر الماضي قوانين تبيح قدرا كبيرا من التدخل في حياة المواطنين في اليوم نفسه الذي علمت فيه أن عملاء أمريكيين تنصتوا على هواتف رؤسائها. وتراجع البرلمان الاوروبي عن موقفه في معركته لمنع العمل بصلاحيات تتيح تتبع سجلات ركاب الطائرات بين الدول الأعضاء وتبادلها. ومن الأمور التي لا يعرف بها كثيرون أن الاتحاد الاوروبي نفسه الذي يضم في عضويته 28 دولة ينفق كمؤسسة جماعية مئات الملايين على تطوير تكنولوجيات أمنية تقول جماعات الحقوق المدنية إنها تعرض الحق في الخصوصية للخطر. وقال نيلز مويزنيكس وهو مواطن من لاتفيا يعمل مفوضا لحقوق الانسان في مجلس أوروبا الذي يضم 47 دولة في عضويته ولا يتبع الاتحاد الاوروبي "إن تمويل هذه البرامج ليس مشكلة في حد ذاته. بل إن كيفية استخدام هذه التكنولوجيات هو الذي يثير سلسلة من المخاوف فيما يتعلق بحقوق الانسان". ومع تزايد المخاوف بسبب عنف المتشددين حتى قبل وقوع هجمات باريس في يناير كان انفاق الاتحاد الاوروبي على الأبحاث الأمنية البالغ 1.9 مليار دولار في ميزانية الاتحاد لسبع سنوات بدءا من 2014 يزيد بنسبة 20 في المائة عنه في الفترة السابقة. ويقدر مسؤولو الاتحاد الاوروبي أن ذلك يمثل نسبة 40 في المائة من كل إنفاق الدول الاعضاء على تطوير هذه التكنولوجيات رغم أن الكثير منها لا يملك القدرة. ومن بين الأولويات القصوى ايجاد سبل لتركيز المراقبة الجماعية للانترنت والبريد الالكتروني والهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي على من تحوم حولهم الشبهات. وجانب كبير من الابحاث التي يمولها الاتحاد الاوروبي تجريه شركات خاصة بعضها في دول غير أوروبية مثل الولاياتالمتحدة واسرائيل. وأغلب هذه الابحاث مدون في وثائق المناقصات العامة رغم أن الرجوع إليها عملية تستهلك وقتا طويلا. غير أن حوالي عشر هذا الانفاق يخصص لمشروعات تصنف على أنها شديدة السرية. حماية قانونية وردا على سؤال عما إذا كانت هذه الأبحاث قد تمس الحريات المدنية قالت ناتاشا برتو المتحدثة باسم اللجنة الاوروبية "محاربة الارهاب والحفاظ على سلامة المواطنين تعني البقاء في حالة استعداد للطوارئ... والاتحاد الاوروبي يجمع بين الصناعة والممارسين ويوفر تمويلا لتطوير تكنولوجيات حديثة من أجل مساعدة الدول الأعضاء على تحسين حماية الناس والبنية الأساسية". ووصفت معايير الخصوصية في الاتحاد الأوروبي بأنها من بين الأعلى في العالم وأشارت إلى جهود تبذل لضمان التزام الشركات التي تعمل في مناطق أخرى بقواعد حماية البيانات المعمول بها في الاتحاد الاوروبي. وأضافت "لا أمن دون حرية ولا حرية دون أمن". وامتنعت شركات شاركت في مشروعات الاتحاد الاوروبي عن التعقيب ومنها ايرباص لصناعة الطائرات وشركة ويند الايطالية للاتصالات. كما امتنعت شركة فيرينت سيستمز الامريكية التي يوجد لها نشاط في اسرائيل عن التعقيب أيضا. وتوضح معلومات اللجنة الاوروبية أن فيرينت تتولى تنسيق أربعة مشروعات أمنية وحصلت على حوالي أربعة ملايين يورو من الاتحاد الاوروبي في الفترة من 2007 إلى 2013. ورغم إصرار الاتحاد الاوروبي أن النظم تخضع لرقابة قضائية كاملة، يشير بعض الخبراء إلى أن برامج الكمبيوتر والأجهزة التي تطورها الشركات بأموال أوروبية والمملوكة لشركات خاصة يمكن أن يستخدمها أي مشتر آخر في المستقبل دون الخضوع لهذه الرقابة. وقال مويزنيكس من مجلس أوروبا إن أدوات المراقبة التي خضعت حتى الآن لتدقيق شديد ربما يصبح استخدامها أسهل مع تشديد الدول الاوروبية لتدابير مكافحة التجسس. وقالت فرانشيسكا جودينو من شركة بيكر اند ماكينزي الأمريكية للاستشارات القانونية في ميلانو إن التكنولوجيات الأمنية التي يتم تطويرها من خلال مشروعات الاتحاد الاوروبي لها أدوات لحماية الخصوصية مثبتة فيها. والهدف من هذه الأدوات أن تجعل من المستحيل استخدامها دون الصلاحيات القانونية المحلية المطلوبة لأمور مثل التنصت على الهواتف. وكانت الشركة التي تعمل بها جودينو شريكا في مشروع رعاه الاتحاد الاوروبي لثلاث سنوات يعرف باسم كيبر. واكتمل هذا المشروع قبل تسعة أشهر وأوجد منبرا تستطيع الشرطة والوكالات الأمنية من خلاله تبادل المعلومات التي تم جمعها خلال مطاردة عصابات الجريمة المنظمة. وقالت جودينو إنه في حين أن التكنولوجيات التي تم تطويرها تحت إشراف الاتحاد الاوروبي "محايدة" في حد ذاتها أي أنها لا تمس الحريات المدنية بسوء فلا يوجد ما يضمن كيفية استخدامها بمجرد خروجها من نطاق البرامج الاوروبية. تكنولوجيا مطلوبة غير أن مسؤول الاتحاد الاوروبي قال إن المخاوف التي تحيط بمشاركة شركات غير أوروبية في مشروعات أبحاث الاتحاد الاوروبي ليست في محلها. وأضاف "بالطبع تلقى الشركات الاسرائيلية اهتماما. فهي تحصل على الكثير من أموال الاتحاد الاوروبي. لكن الواقع يقول انها تسبقنا بكثير في التكنولوجيا. وهي تتبادلها معنا". ويقول المسؤولون إن من بين أولويات الاستثمار مجال تكنولوجيا المراقبة الجماعية التي تتيح للوكالات مسح قدر كبير من المعلومات من تسجيلات صوتية وفيديو ونصوص مكتوبة للتعرف على المشتبه به. ومن هذه التكنولوجيات معدات فحص البيانات لاعتراض المحادثات عبر الانترنت وأجهزة رقمية للدخول عن بعد على أجهزة الكمبيوتر الخاصة وأجهزة آي.إم.إس.آي المحمولة للتنصت على المكالمات الهاتفية وتحليل بيانات شبكات التواصل الاجتماعي واستخلاص البيانات لتحديد مواصفات المشبوهين حسب الأنماط التي يتركون آثارها على الانترنت. كما يجري تطوير تكنولوجيات لفك شيفرات الرسائل المؤمنة والتعرف على الاتصالات المجهلة. ومثل هذه المشروعات تثير قلق رئيس لجنة الحريات المدنية بالبرلمان الاوروبي كلود موريز وهو نائب من حزب العمال البريطاني إذ يرى تعارضا في المصالح بين تطوير هذه التكنولوجيات والاعتراضات المتكررة من الاتحاد الاوروبي على برامج المراقبة الجماعية التي يديرها شركاؤه الدوليون. وما زال كشف إدوارد سنودن المتعاقد الهارب الذي كان يعمل بوكالة الأمن القومي الامريكية عن برنامج مراقبة جماعية أمريكي للبريد الالكتروني الخاص والهواتف في مختلف أنحاء العالم يثير الشبهات في أوروبا ويسيء للعلاقات الاوروبية الامريكية. وعززت هذه التجربة معارضة النواب في البرلمان الاوروبي - الذين يتأثرون بشدة بالارتياب الألماني التاريخي في المراقبة الجماعية -لاقتراحات بتبادل سجلات ركاب الطائرات. وبعد عامين من الجدل تمت الموافقة على المشروع أخيرا على مستوى اللجان في البرلمان الاربعاء الماضي. وعطل هذا تنفيذ نظام أنفق عليه الاتحاد الاوروبي الملايين. وقال المسؤول الاوروبي المطلع على مشاريع الأبحاث إن الموازنة بين الأمن والحريات تمثل مشكلة. وأضاف "على المستوى الشخصي بالطبع يجعلني بعض من هذا الأمر أشعر بعدم الارتياح. لكن الآخرين كلهم يفعلون ذلك وأوروبا بحاجة للحاق بهم".